جلـ ... منار

المواطن و الكلب

نشرت

في

كان المثقف العربي غارقا في بث همومه و مكنونات صدره للكلب الصغير المتثاقل ترفا و استرخاء في إحدى سيارات السلك الدبلوماسي الأجنبي وسط تجمع المارة و سخريتهم، عندما أقبل أحد رجال الشرطة مسرعا بمسدسه و هراوته و أصفاده و غيرها من عدة الديموقراطية العربية.

<strong>محمد الماغوط<strong>

المثقف: سنتابع حديثنا في ما بعد.

الكلب: لمَ يرتجف صوتك و تصطكّ ركبتاك؟

المثقف: لقد جاء الشرطي

الكلب: و إن جاء، ما علاقته بك أو بسواك؟

المثقف: إذا لم تفهموا هذه العلاقة حتى الآن فلن تفهموا ما يجري في منطقتنا أبدا.

الكلب: أنا لا أخاف من حلف الأطلسي

المثقف: لأن حلف الأطلسي قد يراجَع بشأنك إذا ما تعرضت لمكروه

الكلب: أليس لك أهل و أصدقاء يراجعون بشأنك؟

المثقف: طبعا. و لكن المشكلة أن الذين سيراجعون بشأني سيصبحون هم أوتوماتيكيا بحاجة إلى من يراجع بشأنهم. الآن وصل الشرطي. أرجوك أن تتصرف و كأنك لا تعرفني.

الشرطي: ما هذا التجمع وسط الشارع؟

المثقف: ألا تسمعون؟ ممنوع التجمع إلا لرجال الأمن.

الشرطي: هيا. كل في حال سبيله.

المثقف: مواطن يتحدث إلى كلب، هل هي فرجة؟

الشرطي: بل جريمة.

المثقف: قبل أن ترفع هذه العصا يجب أن تعرف، و أنت رجل القانون، أنه لا يوجد في أي عرف أو دستور أو بيان وزاري ما يمنع المواطن من التحدث إلى كلب.

الشرطي: من ندرة الأشخاص و المنابر و المتفقهين من حولك حتى تتحدث بما تعانيه إلى هذا المخلوق المنفر الغريب؟

المثقف: و لمن أتحدث يا سيدي؟

الكتّاب مشغولون بالجمعيات السكنية

و الفنانون بالمسلسلات الخليجية

و المعلمون بالامتحانات

و الطلاب بمعاكسة الفتيات

و التجار بإحصاء الأرباح

و الفقراء بغلاء الأسعار

و المسؤولون بالخطابات

الشرطي: عمّ كنتما تتحدثان؟

المثقف: موضوعات عامة. كنا نتحدث عن الحب

الشرطي: كذاب. لا أحد يحب أحدا

المثقف: عن الصداقة

الشرطي: أيضا كذاب. لا أحد يثق بأحد

المثقف: عن الصحافة العربية

الشرطي: لا أحد يقرؤها

المثقف: عن الإذاعات

الشرطي: لا أحد يسمعها

المثقف: عن الانتصارات

الشرطي: لا أحد يصدقها

المثقف: عن المقاومة الفلسطينية

الشرطي: لا أحد يبالي بها

المثقف: عن الزراعة

الشرطي: لا أحد يزرع شيئا. كل طعامنا صار معلبات. عمّ كنتما تتحدثان للمرة الأخيرة؟

المثقف: بصراحة، كنت أحدثه عن قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي من الألف إلى الياء.

الشرطي: يا للفضيحة. تتحدث عن أهم قضية عربية إلى كلب و أجنبي أيضا؟

المثقف: لا تحمل الموضوع أكثر مما يحتمل. اعتبِرْه تتمة للحوار العربي ـ الأوروبي

الشرطي: و لماذا كنت تطلعه على صحفنا المحلية؟

المثقف: كنت أتلو عليه إحدى الافتتاحيات

الشرطي: و كيف كان تعقيبه عليها؟

المثقف: لقد عوى.

الشرطي: كلب متواطئ

المثقف: لماذا تتحدث عنه بكل هذه الضعة و الاستصغار يا سيدي؟ صحيح انه كلب صغير بحجم قبضة اليد. و لكن انظر إليه كيف يبدو وادعا مطمئنا، و واثقا من كل شيء، يعرف متى يأكل و متى يشرب و متى يخرج إلى النزهة و متى يعود منها، و متى ينام و متى يستيقظ. باختصار: كلب صغير يعرف مصيره و رجل طويل عريض لا يعرف مصيره. آه يا سيدي الشرطي.. أنا الإنسان العربي، لو كان لي حقوق كلب فرنسي أو جرو بريطاني لصنعت المعجزات بقلمي البائس و دفتري المهترئ هذا. هل سمعت بإلياذة هوميروس؟

الشرطي: لا

المثقف: بالأوديسة؟

الشرطي: لا

المثقف: بملحمة غلغامش؟

الشرطي: لا

المثقف: بالكوميديا الإلهية لدانتي؟

الشرطي: لا

المثقف: بمسرحية فاوست لغوته؟

الشرطي: لا

المثقف: إذن بماذا سمعت؟

الشرطي: منذ غزو لبنان لم أسمع إلا أغنية “صيدلي يا صيدلي”

المثقف: إذن. هل تسمح لي بأن أعوي معه قليلا؟

الشرطي: لا، هيا أمامي

المثقف: لن أمشي في الشارع هكذا

الشرطي: ماذا تريد؟ موكبا رسميا؟

المثقف: أريد طوقا حول عنقي فقد أهرب، كمّامة على فمي فقد أعضّ

الشرطي: من ستعض يا هذا؟

المثقف: قد أعض الأرصفة، البنوك، الجماهير، اليمين، اليسار، الشرق، الغرب، الجنوب، الشمال. اخفض مسدسك يا سيدي و لا تصدق ما أقول ففي النتيجة لن أعض إلا لساني على قارعة الطريق، أو أصابعي حتى يتصل الناب بالناب لأنني آمنت بشيء ما في يوم من الأيام. أليس كذلك يا سيدي الشرطي؟

الشرطي: أرجوك لا تضربني على الوتر الحساس و إلا تركت عملي و انضممت إلى المحادثات معكما.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version