جور نار

النجاح المدرسي والجامعي عبر المسالك المُختصرة

نشرت

في

يتوجّب عليّ أن أشير في مستهلّ هذه الورقة أن تعبير “مسالك النجاح المختصرة” ليس من صُنعي بل هو عنوان لفكرة واجهني بها صديق عزيز ذات يوم، عندما كنّا بصدد الحديث عن تدخّل الأصل الاجتماعي بنسبة كبيرة (يقدّرها بعض المختصين في العالم بما لا يقلّ عن 20 أو 25 بالمائة في النجاح المدرسي والجامعي من عدمه) …كانت الفكرة -التي تواعدنا على تطويرها سويّا ولم نفعل- هي أنه في ظل استحالة تحييد الظروف المُعيقة للنجاح على المدى المنظور خاصة في ظل حكومات متعاقبة تعاني هي نفسها من أثر عقمها الموروث، لا بد من اجتراح مسالك أو ممرّات مُختصرة لا نظامية des raccourcis نفتحها ونُعبّدها أمام بناتنا وأبنائنا شرط توفّرها على عنصري الفاعليّة المباشرة وضعف الكلفة المادية.

<strong>منصف الخميري<strong>

فأمام البداهات التربوية الموجِعة اليوم في بلادنا والتي يمكن اختزالها في أن الاستبسال في شحن التلاميذ بواسطة الدروس الخصوصية يساهم في تحصيل علامات مرتفعة، وأن بعض الأساتذة المتمرّسين لا يسلّمون مفاتيح السيطرة على أعتى تمارين الرياضيات أو الفيزياء إلا في سياق الحصص المدفوعة أجورها سلفًا، وأن بعض الاختصاصات الجامعية صعبة المنال في الجامعات العمومية لدينا بالنظر إلى حجم المعدّلات المطلوبة، تخرّ صاغرة في عديد العواصم العالمية أمام يُسر الأحوال وسخاء الأموال… حيال هذه البداهات لا يبقى من آفاق واعدة أمام “الجيوب الحافية والحسابات البنكية العارية” سوى انتهاج “القصّات العرْبي” التي تختصر المسافات وتلتفُّ على الحواجز المعطّلة وتُجانبُ نقاط التفتيش المنتصبة بإحكام في كل مستويات الانتقاء المدرسي والجامعي.

وهذه بعض المسالك المختصرة :

المسلك المختصر الأول : الاقتناع بدءًا بأن الذكاء والدّافعيّة موزّعان بعدل بين جميع الناس

من الكليشيهات التربوية السائدة أن الأوساط الاجتماعية الميسورة بوسعها أكثر من غيرها أن تنقُل لأبنائها ثقافة شفوية ومكتوبة تكون قريبة جدا من الخطاب المُتداول مدرسيّا (من خلال قراءة الكتب والسفر والرحلات والتبادل المُتيحة جميعها لخطاب لغوي مُهيكل). نعم هذا مهمّ وحاسم وبارز لنا بالعين المجرّدة داخل الأقسام وخارجها، ولكن لا يجب أن يتحوّل هذا الإكراه إلى شمّاعة نُعلق عليها فشل أبنائنا في دراستهم. فكم من أمّ أميّة أوصلت أبناءها إلى أعلى المراتب الدراسية، وكم من أب مزارع تابع دراسة أبنائه بحرص وشغف وانتباه جعلهم يذهبون إلى أبعد المراقي. إن عامل عدم توفّر الكتاب تعلّة مردودة، وعدم القدرة على إجراء الزيارات المُخصّبة لخطاب الأطفال ولغتهم منطق واهٍ لأن الوسط الطبيعي الذي يسبح فيه هؤلاء قادر على إلهام أكبر الشعراء والكتّاب، والذكاء موزّع بعدل بين جميع الأطفال، والدافعية محرّك داخلي وعائلي يُصنّع حول أبسط الأكلات، وتثمين الذات يولّده التشجيع والتحفيز دون كلل … هذا كل ما في الأمر. اقرؤوا ما يتداوله الباحثون في النجاح والفشل المدرسيين عبر العالم لتكتشفوا أن هذا كل ما في الأمر. فــ “يا كشفتهم” أولئك الأولياء الذين يتباهون أحيانا بأن “قراية أولادهم” من مشمولات أمهم، أما هو فتكفيه شقاوة المشهد السياسي وأداء اللاعب صلاح في فريق ليفربول.

المسلك المختصر الثاني : لا تجعل الرياضيات تقتلك، افتكْ بها أنت وأسّسْ جمهوريتك الفاضلة

أعتقد شخصيا أن واحدة من المعضلات الأساسية التي تُعيق تطوّر منظومتنا التربوية هي الزجّ بحشود عريضة جدا من التلاميذ في مسارات دراسية أساسية طويلة لا يقدر على النجاح والتألّق فيها إلا عُشُرهم أو أقلّ. ويبدأ مسار “التطويل” التعسّفي في الدراسة مباشرة بعد المرحلتين الابتدائية والإعدادية وصولا إلى باكالوريات عامة لا يستحق التعليم العالي الوازن والواعد إلا عددا ضئيلا من الحاصلين عليها.

كم من سنوات مهدورة في تعقّب معارف مجرّدة ليس لها مستقرّ، وكم من أعمار ضُيّعتْ في محاولة ترويض الصرف والعروض والنحو ثم ننتبه عندما يفوت الأوان ونقول “لو كان النحو رجلا لقتلته” !

إن السعادة والغِبطة اللتين نشعر بهما جميعا عندما نعثر على حِرَفيّ جيد يتمتّع بمهارة خاصة في السّباكة والحِدادة والميكانيك والكهرباء والنّجارة والإلكترونيك والبِناء والتزويق وتقليم الأشجار… دليل قاطع على أن هنالك طلبا اجتماعيا كبيرا على هذه المهن وعلى هذا الملمح بالذات لممارسيها. يكفي أن يتوفر شرط الاستقامة والاقتدار حتى يكون الحريف مستعدّا لدفع أي مبلغ يطلبه الأخصائي (كما لا يناقش أيضا تعريفة الطبيب المختص أو خدمات وكالات الأسفار). ثم وفق أية معايير يعتبر المجتمع أن مهنة الطب أو الهندسة أفضل شأنا أو أكثر اعتبارية من مهنة طبّاخ بشهرة عالية أو خبّاز بمهارة نادرة تتلقفه أفخم النزل وأكبر القصور؟ 

لكن يظلّ الشغف والولع الشرط الأساسي الأول قبل السؤال التهرّبي “محسوب ثمة تكوين هوّ وثمّة مكوّنين وثمّة مراكز تكوين أصلا ؟ كل شيء عالحيط في تونس !” لكي يستطيع الشاب أن يحلُم بوضع يكون فيه سيّدا وبانيًا لمربّع محصّن لا ينافسه فيه أحد. وهو وضع طبيعي يسمح تماما بأن يُقبل صاحبه على كل لذائذ الدنيا وفاكهتها.

المسلك المختصر الثالث : الدراسة المجانية عن بعد في أرقى الجامعات العالمية

يتمثل هذا المنوال الدراسي الجديد (الذي اتخذ منحى جماهيريا واسعا منذ 2012 حسب جريدة نيويورك تايمز) في دروس عن بعد مفتوحة للجميع تؤمّنُها جامعات عالمية مرموقة ومؤسسات صناعية وتجارية خاصة وعامة، وتكون مُفضية عادة إلى إشهاد مُعترف به لدى أغلب المُشغّلين العالميين بعد حصص منتظمة ومداخلات تأطيرية للأستاذ المشرف وتمارين وامتحانات نهائية… وذلك في أغلب الاختصاصات المُتاحة في الجامعات العمومية والخاصة.

ويُذكر في هذا السياق أن الاختصاصات الخمسة المرغوبة خلال السنوات الأخيرة تدور حول “التعلّم الآلي أولا ، أي العلم الذي يسمح للحواسيب بأداء مهام لم تكن مبرمجة بشكل صريح في هذا الاتجاه، ومن بين التطبيقات الموجودة نذكر العربات الآلية وبرامج التعرف الصوتي الخ… ، والتحولات الطاقيّة والبيئية ثانيا والذكاء الاصطناعي ثالثا وتعلم كيفيّة التعلم رابعا (أي التعرف على الاشتغال العام لمسارات التعلم وتجريب مختلف التقنيات والمقاربات التي تسمح بتحسينها) وكيف تصبح مبادرا للتغيير خامسا (بمعنى إحداث مشاريع تجمع بين النفع الاجتماعي والوجاهة الاقتصادية).

تصوّروا حجم المغانم الدراسية والتشغيلية التي تتوفّر لشابّ لم تقدر عائلته على دفع معاليم ترسيمه بجامعة هارفارد الأمريكية (أكثر من 100 ألف دولار سنويا موزعة بين كلفة الترسيم والأكل والإقامة والكتب والرحلات) لكنه باستطاعته إحرازها (جزئيا على الأقل) دون دفع مليم واحد ودون مغادرة حاسوبه !!!

المسلك المختصر الرابع : اللغات، حصان مُجنّح كما في الأسطورة الإغريقية

إذا أردت أن تهزم المقولة الفرنسية “يتكلم الانكليزية كما تتكلمها بقرة إسبانية“، ليس أمامك سوى الارتماء حافيا عاريا في أحضان اللغة التي تريد تعلّمها، لأنه تبيّن خلال العقود الأخيرة أن الإشباع اللغوي لا يكون في كتب النحو والصرف المغلقة وممارسة رياضة السير عبر ألغام التقعيد والتعقيد القابلة للانفجار في منعطف جملة أو شكل إحدى كلماتها، بل إن المدارس الحديثة تعتنق اليوم مقاربة “الشفوي بالكامل” أي الاستماع إلى اللغة وتعلم قواعدها بشكل ضمني وتلقائي والتشبّع بمفرداتها ونبراتها ونغماتها قبل الإبحار في تعلّم ضوابطها التنظيمية… ويكون ذلك من خلال الاستماع المستمر إلى ما يُذاع بتلك اللغة ومشاهدة الأفلام وقراءة القصص والتواصل الشفوي مع متكلّمي تلك اللغة دون خشية كلما تيسّر ذلك. والدليل أن كبار معلّمي قواعد اللغة (أيّة لغة) غير قادرين في معظمهم على كتابة نص جيّد. ثم إن ربط تعلم اللغة بمدارات الاهتمام الحميمية لدى الطفل، طريق جيدة لمضاعفة شغف الاستقواء لغويا. كأن يتعلم الطفل الانكليزية لأنه يعشق الموسيقى الناطقة بهذه اللغة أو أن يتعلّم الفرنسية لأنه يريد أن يكتب رسائل مُبهرة إلى صديقته في مونتريال…

…ومسالك أخرى يجدر الاهتمام بها أيضا :

بالإضافة إلى كل ذلك، لا يمكن أن نُهمل مسالك مختصرة أخرى تبدو بديهية وفي متناول جميع الناشئين، لكن العائلة والمدرسة لا يطوّرانها بشكل كبير حتى تُسهم في دفعهم دفعا نحو “أخذ الكلمة” والتعبير ووضع كلام على مشاعرهم وتحويل انفعالاتهم إلى خطاب وحركاتهم الجسدية الغاضبة إلى شيء منطوق… مثل القراءة بصوت عال والنشاط ضمن الجمعيات والنوادي والحثّ على معرفة ما نريد والتدريب على البرهنة والتربية على التصرف في نفايات الكلام والتشجيع على تمرين الكتابة المستمرة الخ…

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version