جور نار

النهب الثالث لتونس (7)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

من أمثلة استهتار العشرية مع الدولة وأماني الناس الذين أوصلوهم، ما فعلته بالقضاء التونسي… مؤسسة لها ثقلها في أية ديمقراطية، بل هي الديمقراطية لو اختصرناها… سلطة فصَلها مونتسكيو عن باقي السلطات، وضمير صاح حين ترقد كافة الضمائر… وأظهر عناوين نجاح هذه السلطة هو حين تنصر الضعيف على القوي، وتأخذ حق مَن دخله بالدنانير على ذي الثروة ولو كان أوناسيس أو قارون… وقتها تشهد العامة أن هناك عدلا، ويؤكد العدل أنه أساس العمران…

قضاؤنا طوال عشرات السنين لم يترك لنا ذكريات حسنة نتغنى بها … دعنا من المحاكمات السياسية التي كنا نعرف مسبقا من أين كانت تدار وكيف … ولكن في القضايا المدنية ونزاعات مواطن مع بنك أو شركة تأمين أو جار من إحدى العائلات، لم تسطع في الحقيقة حادثة تجعلنا نفخر ونقول عاش العدل … ربما الاستثناءات حصلت في بعض القضايا الإدارية والعرفية المرفوعة هنا وهناك، ولكن طابعها غير الإلزامي جعل كثيرا من الأحكام حبرا على ورق، وورقا في قجر، وقجرا هو قبر … وما قضية العقيد القلمامي الشهيرة إلا واحدة من ألف … إذ مع بواكير تغيير جانفي 2011 تفاءلنا خيرا بما سيحدث من تحرر في فضاءات عدة أولها فضاء المحكمة … وراحت أصوات كثيرة تطلب إصلاحات تشريعية لرفع وصاية الدولة على القضاء، وتحقيق استقلالية سلطته عن السلطة التنفيذية، بل والاحتكام إليه مراقبا لتلك السلطة،عبر محكمة دستورية تفصل في كل ما يقرره السلطان…

غير أن ما وقع كذّب التفاؤل وسفّه الأحلام… وراح الطرف الجديد الأقوى في السلطة، يخيط قرارات العزل والتعيين والنقلة على هواه… وبمثل ذلك طفقت الأحكام تتوجه بحسب الأهواء هي الأخرى… وحدثت مجازر أولى في ما يتعلق بمن تمت تسميتهم برموز العهد السابق، وعوملوا برعونة التشفي دون الأدلة والدفاعات وأسس المحاكمة العادلة… بل خرجت علينا أصوات مفادها أنه ما دام هؤلاء لم يقيموا عدلا في عهدهم، فحلال فيهم كل أنواع التعسف وكأنهم مواشي مسلخ بلدي… وزاد الحكام الجدد على ذلك بأن دخلوا في مساومات ومقايضات وتوزيع للإدانات والبراءات بحسب من دفع ومن لم يدفع… وأعدّت في البداية “قائمة” بـ 500 مُدان، ثم تقلصت القائمة إلى مائة ونيف، ثم “شربت” أكثر مع تقدم المفاوضات وعمليات الرضوخ للابتزاز… وانتقل البحث في هذه الملفات من مكاتب حكام التحقيق بقصر العدالة، إلى مكتب وحيد برئاسة الحكومة، فيه موظف مكلّف يعمل بمبدإ (أسلم تسلم)…

المجزرة القضائية الثانية تمت مع ما سمّي بالأملاك المصادرة… ودون أي مستند موضوعي، شنّوا هجوما أهوج على كل من له صلة بالرئيس السابق عائلة وأصهارا وأقارب وأقارب أقارب، وأصدقاء ومعارف ولو بالشبهة … على بعضو … وربما كانت من المستندات منشورات وكتب صدرت في الخارج زمن التسعينات والألفينات، من صحفيين فرنسيين اعتمدوا على روايات معارضين و”إشاعات تراكن” أكثر منها معلومات ووثائق وحجج… ثم هب أن في ذلك معلومات ووثائق وحججا، هل يكتفي القاضي بذلك دون أن يحقق بدوره ويستعمل وسائله القانونية لتمييز الحق من الباطل؟ … لم يقع شيء من هذا بل عملية نهب شاملة لأموال وأرزاق ومشاريع عاملة وحتى مساكن شخصية بات أصحابها من يومهم في العراء… وبجرّة قلم، وبجرّة شعر حتى …

فوق هذا كيف تم التصرّف في ما “نُهِب” باسم الأملاك المصادرة؟… في البداية سمعنا بتعيين مؤتمنين عدليين، وبعد ذلك متصرفين قضائيين، وبين الصفتين “شركة” حكومية أي هيكل بيروقراطي ثقيل طويل اسمه الكرامة القابضة هيمنت على الجميع مدة ولا ندري ما مآلها اليوم… وبعد ذلك تمّ تعطيل جزء مهمّ من قضاتنا وإخراجهم من المحكمة وتكليفهم بإدارة مؤسسات مصادرة دون سابق خبرة بإدارة الأعمال… كما اختلط الحابل بالنابل بين عقارات ومنقولات… واستولى من استولى على ما شاء من هذه وتلك… وسمعنا عن ضياع (جمع ضيعة) شاسعة وفيلات أخذها فلان وفلان من أقوياء السلطة الجديدة… وزاد عليها وزير فلاحة وضع يده على ضيعة للسرياطي وعمّرها بحصّة أبقار كانت قادمة من الدولة الهولندية إلى الدولة التونسية… ورفع فوق الكلّ لافتة مكتوب عليها “هذا من فضل ربي”…

التصرف في الأملاك المصادرة سيبقى لزمن طويل وصمة في وجه البلد ومن حكموه ذات يوم… فقد تم هدر ثروات عصية على النقدير، بالسرقة، بالإهمال، بسوء الإدارة، بالاستعراض المسرحي، بالإتلاف الموجع للقلب، بتفليس مشاريع كانت تشتغل وتشغّل وتعيل آلاف العائلات مهما قيل فيها … كما تمّ تهريب جزء مهمّ من هذه المشاريع، وبمعرفة السلطة وبتواطؤ منها، إلى مملكة المغرب… واستُضيف ملك المغرب في بلادنا مدّة أطول من أيّ معتاد… وزارنا وأقام بين ربوعنا أسبوعا أو أكثر، وتجوّل ولقي ترحابا في شارع بورقيبة… وهو الذي يقال عنه إنه لا يتنقّل بسهولة خارج مملكته، وقد رفض القدوم بعدها حتى للتعزية في وفاة الرئيس الباجي… وانبرى سفهاؤنا وقتها يبررون بأن ملك المغرب شخصية مقدسة ولا يحضر الجنازات … جنازات التوانسة ممكن… لأننا رأيناه في مواكب دفن شيراك وملكة بريطانيا وحسين ملك الأردن وغيرهم … لا يهمّ … فقد انكشف المستور مؤخرا حين عرف الجميع سرّ الزيارة الملكية وعلاقتها بتحويل وجهة مستثمر أوروبي كبير من تونس إلى المغرب…

مجزرة القضاء الثالثة حين استبدلوا عليه وصاية بوصاية… قلنا أعلاه إن من أحلام التونسيين أن يروا قضاء ناجزا ومستقلا ومحاسبا لذوي السلطان… غير أن العشرية التي ورثت سابقيها لم تشذّ عن قاعدتهم، بل زادت عليهم تقنية جديدة تتمثل في اللعب على الكلمات ووضع العناوين البرّاقة على قواقع خاوية… وعندما تعييها الحيلة توقف كل شيء بفعل المناورة والمماطلة… فالقضاء الناجز حلّت محلّه إيقافات مطوّلة مستمرّة التمديد حتى مات من مات ونُسي من نسي… والاستقلالية رفستها الأقدام بعد حملة العزل والتعيين والتخويف التي وضعت القضاة الناجين في القالب المطلوب … فضاع في الزحمة كل تحقيق يفتح، ونجا من العقاب كل نافذ تعلقت به شكوى،.. وأهدرت دماء ووقع التلاعب بملفات اغتيال فردية وجماعية وعمليات إرهاب صريح …

أما اللعب بالكلمات فقد أتحفنا الجدد بمصطلح “محكمة” المحاسبات بدل دائرة المحاسبات… ولم يتغير حال المؤسسة الجليلة بل ساء أكثر، فعلى الأقل وبتسميتها القديمة كان يقف أمامها وزراء ومدراء وسفراء… وكان تقريريها السنوي لرئيس الجمهورية حصيلة لمحاسبات فعلية طالت أكثر من مسؤول إداري كبير دون خشية منه… تعاضدها في ذلك دائرة الزجر المالي التي كانت تحفظ قدر جهدها المال العام وأوجه التصرف فيه …

العناوين البرّاقة قضائيا ليس أقلّها المجلس الأعلى للقضاء… وقد شهدنا جميعا على لعبة إنشائه ومساعي التحكّم فيه حزبيا عن طريق المحاصصة، حتى أصبح واقعيا جزءا من السلطة ورديفا مؤيدا لها… وربما لنفس أسباب المحاصصة وإرادة التحكّم، فشلت محاولات إرساء محكمة دستورية لأشهر وسنوات…

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version