لديّ حساسية خاصة في ما يتعلق بقارتنا العجوز … نعم، إفريقيا لا أوروبا الكاذبة الدعيّ … إفريقيا هي عجوز العالم وأم البدايات وتاريخ التواريخ … بها أثر لأول إنسان بيولوجي، وأقدم عجائب الدنيا وأبقاها، وأعرق الدساتير والمدنيّات والأديان … وعلى أديمها نشأت أسبق الحضارات قرطاجية كانت أم مصرية أم حبشية …
كنت دائما وظللت متيّما بالتي سمّاها سيدي مصطفى الشرفي “ابنة الشمس والقمر” … فعلا هي كذلك أمّنا السمراء الرؤوم … مدى لامتناه من الثروة والثورة والناس الطيبين والوجوه التي تضحك قبل أن يبكيها الظلم … ثروتها الأولى على ما تعمر به من خيرات وكنوز … قارتنا كانت بالأساس وعلى مدى الدهور محيطا متراميا من المظالم والمآتم وفظاعاتالغزاة … واستغلّ جبناء العالم قلبها السمح وبراءة أبنائها وتصديق سكّانها أن الإنسان مدنيّ بالطبع، ليوغلوا فيها بوحشية نادرة المثال … عصور طويلة جدا من الظلام خيّمت على هذه القرية الشاسعة التي عدلت فأمنت، ظانّة أن العدل أمن، والأمن ضمين لكي تنام نومة العادلين فانقضّ عليها الهمّج واقتسموها فريسة حراما …
ومثلما الليل له ساعة وينجلي، ومثلما الأسد الأسير يطلع عليه صبح يهدم فيه باب قفصه الحديدي فيثور منطلقا ويلتهم المروّض والسوط ونصف متفرجي السيرك ويمضي إلى برّية الحرية … ها أن القارة العظمى تنتفض من أغلالها وتشرع في مطاردة نخّاسيها بالواحد بالواحد … ليست هذه انتفاضتها الأولى، صحيح، ولكن تاريخ إفريقيا المليء دما ودموعا وأبطالا وبطولات، كان أيضا مفخخا بالخونة من كل الطوائف والقبائل … الثائر لومومبا وجد البلجيكيون كلبا مطيعا في شخص “تشومبي” كي يريحهم منه … الزعيم كوامي نكروما سلطوا عليه بيادق من جيشه لإزاحته من مسيرة غانا المتحررة … توماس سانكارا اشتروا لقتله عبدا حقيرا اسمه “كامباوري” غدر به وهو أقرب أصدقائه ليوقف استقلال بوركينا الحقيقي… دائما هناك بالمرصاد كتائب جاهزة وقنّاصة محلبون بالأجرة لوأد كل صوت يقول اتركونا لقرارنا وكرامتنا وإدارة مواردنا دون وصاية من أحد …
القرار الذي لبث سائدا طوال عقود طويلة هو قرار المتروبول الاستعماري الذي لم يفرّط في غنائمه رغم موجة الاستقلالات الفولكلورية في الستينات والسبعينات … مجرد ورقة يتم إمضاؤها في باريس أو بروكسيل أو لندن أو لشبونة، ثم تنصيب طرطور من موالي القوة المستعمِرة وحتى من حاملي جنسيتها … وإتمام إجراءات السيادة الوهمية من علم وعاصمة ونشيد رسمي وحكومة وبرلمان وسفارات بالخارج … بينما يبقى اقتصاد البلاد في نفس الأيدي الأجنبية، ويبقى التبادل مختلاّ بين تصدير رخيص للثروات الخام واستيراد باهظ للمواد المصتعة … وتبقى التبعية مطلقة حتى في القطاعات الحيوية بما فيها الماء الصالح للشرب الذي تمسكه شركة “ليونيز ديزو” … وتبقى العملة هي الفرنك الذي انقرض في بلاده واستمرّ في إفريقيا الغربية … وتبقى اللغة الوطنية لغة المحتلّ القديم الجديد الأبدي … دون الحديث عن التبعية السياسية والدبلوماسية ويظهر ذلك عند التصويت على قرار ما في مجلس الأمن مثلا، فإذا لكل من الدول العظمى حريمها وجواريها …
هذه الأيام، خرج صوت من دولة إفريقية لم يكد يسمع بها أحد سابقا فكثيرا ما كما نظنّ أن النيجر هو اختصار لاسم نيجيريا … خرج الصوت المتمرّد من النيجر بأنها اوّلا ليست تصغيرا لنيجيريا، وثانيا أنها ترفض مواصلة النوم في زريبة السيد الفرنسي الذي عليه فورا أن يرحل، وثالثا أن الصوت الرافض تنادت له أصوات كالصدى في الأودية الغائرة الرهيبة … فصار الصوت الواحد ثلاثة بعد انضمام متمرد آخر هو مالي، ومتمرد آخر هو بوركينا فاسو، الجارة صاحبة الأنفة المكتسبة … ويبدو أن رقعة كاسري الأغلال ما فتئت تتسع شعبيا في بلدان إفريقية مجاورة، رغم أن أنظمتها مازالت غارقة في وحل التبعية مثل ساحل العاج والسينغال … ولا غرابة في ذلك بما أن مؤسس الأولى (هوفوات بواني) بدأ حياته السياسية نائبا بالبرلمان الفرنسي، فيما ختم مؤسس الثانية (ليوبولد سنغور) حياته عضوا وفيّا منضيطا في الأكاديمية الفرنسية …
جبهة مسعورة من وكلاء الاستعمار تشكّلت وبدأت تكشّر عن أنيابها لـ “تأديب” النيجر على تمرّدها على فرنسا … صحيح تتقدم هذه الجبهة دولة أنكلوفونية مثل نيجيريا، لكن يزول العجب حين نعرف تكامل الأدوار ووفاق الإجرام بين الامبرياليات وهنا بين فرنسا وبريطانيا … وحتى الأمريكان لا يمكن أن يكونوا بعيدين عن فرصة دمار وشيكة كهذه … ظاهريا للدفاع عن “ديمقراطية” الفساد التي شاهدنا عينة منها هنا في تونس … وباطنيا لمواجهة الدب الروسي عدوّهم التقليدي الذي يبدو أن المتمردين إليه أميل … وفي باطن الباطن سعي لمنع الشرارة من التحول إلى نار والنار إلى حريق تشعله القارة في ثياب مستعبديها (بكل جنسياتهم) ومصالحهم وينبوع سيطرتهم النووية …
والآن … ها نحن نتابع الأخبار ونرصد الوكالات أحيانا بعينين اثنتين وغالبا بعين واحدة أو بنصف عين … وقد نجحت طبقتنا السياسية في غمّنا بالمعنيين الفصيح والدارج … ألهانا سفهاؤنا بمئات المشاكل والاحتياجات البدائية التي لم نعد قادرين على حلها … ولكن بقليل من الوعي يمكن أن نفهم أن مصيرنا نحن أيضا بصدد التقرر هناك في تلك المنطقة التي تبعد عنا أربعة آلاف كيلومتر، وبيننا وبينها صحراء طويلة عريضة … لا أتحدث عن سيل المهاجرين الذين يمكن أن يتدفقوا على حدودنا الهشة، فذلك حاصل … ولا عن تأثر جارين مباشرين لنا وهما متاخمان لمدارت الصراع، وتأثير ذلك فيما بعد علينا بشتى الأشكال …
لا، فهذه منادب استأنسناها وصارت من وجبات مائدتنا … ما أعنيه أن جرس الحرية دق في تلك الربوع، وأن نفس القيود التي منها نعاني تواجه تفكيكا من مصلحتنا أن نساهم فيه … كما هي فرصة لنا لكي نرأب عشرين صدعا بيننا وبين القارة الأمّ التي لطالما عاينت عقوقنا … وربما وصلنا الآن إلى مفترق لا يحتمل أكثر من طريقين: طريق الاستعمار المؤبّد، وطريق إفريقيا الحرة …