يحضرني نصّ قديم درسناه في الابتدائي أعتقد – إن لم تخنّي الذاكرة – أن عنوانه كان “سلسلة من ذهب” ضمن المجموعة القصصية “القنطرة هي الحياة” للأديب التونسي مصطفى الفارسي.
هذا النّص تحدّث فيه الفارسي عن تجنّد مجموعة من النساء في إحدى القرى الساحليّة لشراء مركب الصّيد الكبير من المعمّر الذي سيغادر البلاد، حين عجز الرجال عن توفير ثمنه و رفض البنك إقراضهم … قررت النّسوة التبرّع بحليهنّ لتوفير المبلغ المطلوب و المحافظة على مورد رزق عائلاتهنّ. و جمّعن المصوغ الذّهبيّ في شكل سلسلة طويلة جُبن بها القرية وما إن رآها مسؤولو البنك حتى وافقوا على تسليم الأهالي المبلغ المطلوب …
تذكّرت هذه القصّة و ما فيها من معان قيّمة منذ يومين و أنا أشاهد خطاب الرئيس في افتتاح المجلس الوزاري و قلت ليت الوضع اليوم كان مثل الوضع حينها و ليت لنا نفس الثقة القديمة في الدّولة و مؤسساتها و ليتنا كنّا قادرين على توفير ما تحتاجه بلادنا و لكن …..
نعم تذكّرت هذه القصّة أثناء دعوة الرئيس التونسي المواطنين إلى المساهمة في إيجاد التوازنات المالية المطلوبة لتخفيف وطأة الأزمة كما يقول … هذه الأزمة التي كان يرفض الاعتراف بها و كان ينكر وجودها فالشعب طيلة سنتين لم يسمع منه غير خطب رنّانة عن الثروات المنهوبة و الأموال الطائلة المهرّبة وعن المستكرشين و المحتكرين و الفاسدين و اللصوص الذين ينكلون بالشعب. و كان يشير دائما و أبدا إلى أنّ تونس – لولا السرقات و استغلال النفوذ ولولا البرلمانيين الفاسدين – ليست بلدا فقيرا و لكنّها بلد منهوب و أنّ لها ما يكفي من الموارد و الثروات ليعيش شعبها في رخاء …
فتوهّم الكثيرون أنه بمجرّد إمساك سعيّد بكلّ دواليب السلطة ستنفرج الأحوال و ستخرج النّقود من الغرف المظلمة و ستتدّفق الأموال المهرّبة إلى الخارج و ستعود أموال الشعب إلى الشعب فهلّلوا و كبرّوا و صفّقوا له طويلا و قالوا معه لسنا تلاميذ في حضرة دول العالم و طز في المؤسسات المانحة و في هيئات الترقيم الائتماني.
ليستيقظوا يوم الخميس على الحقيقة المرّة و على اعترافه بوجود أزمة كبيرة و ليدركوا في الأخير أن البلاد على مشارف الإفلاس رغم تجاهله و تجاهلهم لتحذيرات الخبراء و المحللين و استهزائهم سابقا من مواقفهم و اتهامهم لهم بالخيانة و انعدام الوطنيّة لأنهم لا يساندون “سيدهم” في توجهاته و رؤيته للأمور ….
و بعد أن كان الرئيس في كلّ مرّة يشعل جذوة الحماس في نفوس أنصاره صار الجميع مطالبا بالتّضحية و التقشف
العاطل الذي كان يحلم بالتشغيل و التخلص من البطالة و بتفعيل الفصل 38، صار رئيس الدّولة يحدّثه عن التقشف و المساهمة في سدّ عجز الميزانية
و الموظف الذي لا يكاد مرتّبه يكفيه حتى منتصف الشهر و كان ينتظر إيقاف الاقتطاع الآلي الإجباري المفروض عليه منذ سنوات، صار رئيس الدّولة يحدّثه عن التقشف و المساهمة في سدّ عجز الميزانية
و صاحب المؤسسة الصغرى الذي أفلس جرّاء أزمة الكورونا و أصبح مهدّدا بالدخول إلى السجن بسبب كساد السوق وقضايا الصكوك دون رصيد، صار رئيس الدّولة يحدّثه عن التقشف و المساهمة في سدّ عجز الميزانية
و الفلّاح الذي أنهكه غلاء البذور و شحّ المياه و كثرة المتدخلين في عمليّة التسويق و تهدّده الجوائح الطبيعية، صار رئيس الدّولة يحدّثه عن التقشف و المساهمة في سدّ عجز الميزانية
دعوة الرئيس منذ يومين أثارت موجة من السخرية و الألم لدى غالبية الشعب الفقير الذي يرى أن الرئيس تأخر كثيرا في إدراك هذه الحقيقة و أضاع كثيرا من الوقت ليفهم أن الأزمات المالية و الاقتصاديّة لا تُحلّ بالخطب الرناّنة و تعبئة الموارد لا تكون بالأمثال الغريبة و الصواريخ الكلاميّة و بتوجيه التهم إلى معارضيه و نعتهم بالجراثيم و الأفاعي و غيرها من النعوت المستوحاة من معجم الحيوان
فإلى من وجه خطابه و دعوته لحل الأزمة هل إلى الوطنيين الصادقين أم إلى الحشرات و المخمورين ؟؟ ممّن يطلب التضحية و على من سيعتمد و قد تفنّن طيلة أشهر في شيطنة أصحاب الأموال و في تشويه خصومه و في تقسيم الشعب و تصنيفه إلى فاسدين و أنقياء، و شياطين و ملائكة ؟؟ و واصل حفر نفق من الفوضى و الكره و التناحر دخلناه منذ 10 سنوات لكنّه تمادى في تعميقه و تفنّن في توطيد أركانه منذ تسلّم مقاليد الحكم ؟؟
سيدي الرئيس ليتك تعلم أنّ نفق التّوتّر و الأجواء المشحونة هو أخطر من نفق حفرة المرسى
سيدي الرئيس ليتك تعلم أنّ نفق الإفلاس و تراجع القدرة الشرائيّة هو أخطر من نفق حفرة المرسى
سيدي الرئيس ليتك تعلم أنّ النفق الذي دخله الوضع البيئي في صفاقس هو أخطر من نفق حفرة المرسى
سيدي الرئيس ليتك تعلم أنّ النفق الذي دخله التعليم و الصحة و النّقل هو أخطر من نفق حفرة المرسى
سيدي الرئيس ليتك تعلم أنّ النفق الذي تعيش فيه الإدارة التونسية هو أخطر من نفق حفرة المرسى
الشعب دخل في نفق الإفلاس و الفوضى و انعدام الأمان و أنت تحدّثه عن نفق المرسى
الشعب يبحث عن حلول اقتصادية و أنت تحدّثه عن استفتاء على النظام السياسي
الشعب يبحث عن قوته و أنت تبحث عن تنفيذ مشروعك الهلامي