جور نار

الهجرة إلى سجون إيطاليا … خير من الهجرة إلى ريفنا المقفر ! (16)

نشرت

في

يوم أمس، كانت طوابير السيارات تسدّ الأفق على كامل طرقاتنا و في كافة مدننا، ما الخطب؟ … في رأس الصف و بعد لأي و استطلاع، تبيّن أن كل هذا أساسه ازدحام على محطات بنزين لا بنزين فيها … ما الخطب ثانية؟ لقد انقطع مدد هذا الرحيق المشتعل عن محطات التزويد و حصل ذلك فجأة ودون إنذار … ما الخطب ثالثة؟ بواخر الشحن القادمة من الخارج تعطلت في الميناء فتعطّل و توقّف وتجمّد و تحنّط و “تكنجل” كل شيء …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و الله لم يلحقنا الذلّ على قدر ما كنّا على الدوام أذلاّء، مثلما طأطأنا الرؤوس في عشرية الشؤم هذه … عشنا خلالها الهوان بأشكاله، عوملنا كحيوانات الزريبة مرة نتزاحم على لتر إيسانس، و مرة على كيلو سكر، و مرة على باكو فارينة، و مرة على قارورة زيت، و مرة على مستودع دروس خصوصية، و مرة على دواء لمرض مزمن، و مرات و مرات على شبابيك القنصليات الأجنبية تسوّلا لفيزا لن تأتي رغم دفع ثمنها، أو على مركب صيد وضعه صاحبه على ذمّة مهرّبي البشر نحو أية حفرة خارج تونس … و لعلّ مرددي مسخرة “ثورة الحرية و الكرامة” شبعانون اليوم بالمادّتبن هاتين حتى التخمة …

لو كنتم شعبا حرّا البارحة مثلا، لأدارت كل سيارة مقودها إلى حيث وزارة التجارة و حاصرتها وزيرا و كتّاب دولة و مديرين و موظّفين و حلفت عليهم بالحرام لا يخرج منهم أحد حتى يعود التزويد … لا بالبنزين فحسب، بل بكل المواد الضرورية التي صرنا نشتاق إليها و لا نرى منها واحدة حتى تختفي أخرى … و تعود الأسعار إلى وضعها الطبيعي لا أن يباع العنب على الأرصفة و في شاحنات الطريق بـ 3.500 كأرخص سعر ممكن، في حين أن ثمنه الأصلي لا يتجاوز بضع مئات …

طبعا أخرّف … أخرّف تخريفا ما دام في وجهك شعب رخيص ديّوث يقبل الباطل و يبلع الشتيمة إذا جاءت ممن هم أقوى منه … شعب يجد نفسه دائما مخيّرا بين الطاعون و الكوليرا فيختار أحدهما أو يغلق على نفسه في بيته أو في مقهاه و الله لا يكوّن فيها البلاد … شعب منسوب الوطنية لديه أضعف ما في العالم أجمع، فكل الأوطان بلده و مرعاه إلا هذه الرقعة التي يتعامل معها كأنها متاع الآخرين … و يتعلل دائما بأن هذه البلاد لم تعطه شيئا و وطن لا يمنحه قوتا و كرامة ليس وطنه … رحمك الله يا كرماوي على هذه العبارة التي تركتها، و لو أنك كنت مخطئا خطأ فادحا في هذا رحمك الله و سامحك في مثواك …

تعبدون فرنسا و تمنّون النفس بهجّة إلى إيطاليا؟ … داكوردو، و لكن لا أحد منا تساءل لماذا أصبحوا هم هكذا في السماء و نحن نزلنا إلى قعر الطنجرة … ما أبسط الجواب عن هذا … منذ أيام شاهدت شريطا وثائقيا عن الثورة الفرنسية و عادت بي الذاكرة إلى ما نعرفه و لا نعرفه عن هذا المنعرج التاريخي الخطير … نفس الوضع الذي نعيشه هذه الأيام و عشناه زمن الجبالي و العريض و جمعة و الشاهد و بقية الجوقة … لم يصبر الفرنسيون كثيرا و لم يقبلوا بأنصاف الحلول … كل الطبقة السياسية العفنة وقع تطييرها جُفاء و إرضاخ الوافدين الجدد لأن يخدموا البلاد و شعبها إذا راموا السلامة … أما المتعاملون مع الخارج فقد اشتغلت المقصلة ليلا نهارا حتى تصبح الخيانة كابوسا ثقيلا لمن يفكّر فيها مجرّد تفكير …

الآن عندك خونة بالبالة في الحكم، و في المعارضة (أو شبه المعارضة، فأولئك ديكور في عملية توزيع حصص و أدوار)، و في المجتمع المدني، و في الشعب نفسه الذي يبيع أباه بحارة سواقر … فمن ستزيح وعلى من ستُبقي؟ الشعوب الحية هي التي تصنع الدول القويّة و شعبنا ميّت بارد جبان فاسد لا يمكن أن ينتج إلا الساسة الذين أمامنا …

أما إيطاليا فيكفي أن نتذكر الحرب الضروس التي خاضوها هناك ضد المافيا … و المافيا الإيطالية تبدو مافياتنا أمامها أطفال كشّافة و حمائم بيضا … كانت حربا بالمعنى الحقيقي و السلاح و الرصاص و اغتيال قضاة و رجال أمن و إعلام و شهود محكمة و حتى مواطنين بسطاء لا ناقة لهم و لا جمل … و مع ذلك كلما اغتالت العصابات قاضيا طلع قاض أشجع مكانه، و كلما سقط رئيس مركز جاء مفتشون آخرون و واصلوا الحملة، و كلما سُفح دم صحفي هبّت وسائل الإعلام بالسهر و الحمّى، و كلما استشهد مواطن خرج الآلاف لتوديعه و توعّد المجرمين بالقصاص … و هذا ما حصل و قُطعت رأس الأفعى أكثر من مرة و لم يتوقف النضال رغم ضراوة المعركة …

شعب صغير الهمّة تقوده نخبة أصغر من برغوث … و في نفس جشعه أيضا … و ها أنك تقرأ و تسمع “مثقفين” من سائر المستويات يهربون إلى الخارج، أو يحلمون بالهرب، أو يحضّون باقي الشعب على أن يفرّ كمرتكب حادث مرور … في حين أن رجلا مثل “ماو” و حين أغلق أبواب الصين في وجه الاستعمار من ناحية ووجوه الجبناء من شعبه الراغبين مثل جماعتنا في ترك أهل البلاء للبلاء … قرر على النخبة أن “تهاجر” من المدن إلى الأرياف، و أن تسند الفلاح الفقير و تسمع منه و تتعلم قيمة الأرض و قيمة الوطن … و انظر إلى ذلك البلد اليوم …

فمتى، متى تقع في جغرافيتنا المنكوبة ثورة ثقافية تجرف كل الوساخات التي رانت على قلوبنا دهورا و غيّرت من جلدتها أكثر من مرة و في كل فصل تنطلي علينا … و لكن حالنا معها لم يفتأ يهبط من سوء إلى سوء …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version