الهوية هويات تتراكم في الزمن و لمَ لا في المكان الواحد … و كما يقول أمين معلوف “هي لا تسنَد دفعة واحدة، بل يتم بناؤها و تحوّلها على طول العمر” … نعم … و نحن في جمهورية تونس عرفنا ذلك و قرأناه و عجبنا من كثرة هذه البناءات التي رفعناها و هدمناها و أعدنا الإنشاء مرارا و تكرارا على مدى ثلاثين قرنا … و ها أن صديقي منذر شريّط يسلّط ضوءه الكشّاف على إحدى هويات هذه البلاد المعمّرة المعمورة، هوية طرأت علينا منذ أربعة قرون و استقرت نهائيا على ما يبدو … اندمجت؟ لم تندمج؟ أضافت؟ لم تضف؟ هذا ما حاول باحثنا الشاب التنقيب عنه، و هذا مما حاولنا مطالعته و مساءلته في كتابه البكر “الهوية الثقافية لموريسكيي تونس” …
من هم هؤلاء الموريسكيون؟
يقول الكاتب (ص 36): “هم المسلمون بالأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492 و هم الذين اجبروا على اعتناق المسيحية و تظاهروا بذلك و فقدوا استعمال اللغة العربية، ثم هاجروا خلال القرن السادس عشر و بداية القرن السابع عشر، و كانت ثقافتهم تختلف عن الثقافة العربية الإسلامية لأسلافهم الملقبين بالأندلسيين و الذين هاجروا من الأندلس قبل القرن السادس عشر” … و قد غادر الموريسكيون إسبانيا فتفرقوا بين النواحي و خاصة بالمغرب العربي … و حط منهم ما يزيد عن 80 ألفا الرِّحال بتونس، و هو العدد الأكبر بين دول شمال إفريقيا، حسب معظم المؤرخين (ص: 37) …
جاء الموريسكيون إلى تونس، خاصة بين سنتي 1609 و 1614 … و قد جلبوا معهم إرثا ثقافيا متنوعا في المعمار و الريّ و الملابس و الموسيقى و الأغذية أثرى و أثّر في تراث تونس و ثقافتها … هذا بديهي و شواهد منه ما زالت قائمة إلى اليوم، و سنعود إليه قليلا في ما بعد … و تأسست مدن لهم أو بهم أو لأجلهم ما تزال تنتشر في شمال البلاد خاصة … و انحدرت منهم عائلات عدة بقيت ألقابها متعاقبة إلى زمننا، و شكّل ذلك جزءا حيويا من فسيفسائنا الوطنية الجميلة …
و لكن ما يدهشني في علم التاريخ و متخصصيه، أنهم لا يقعون في ما نسقط فيه نحن عادة من أوهام نتوارثها كما نتوارث السقوط فيها … فكلما دار بيننا حديث عن الأندلس البعيدة و الوافدين منها القريبين، سارعنا إلى جملة من القوالب الرومانسية التي تكاد تضع الأندلس في مقام الجنة الضائعة، و ذوي الأصل الأندلسي من ذوي الكرامات نزلوا على حضارتنا بردا و سلاما … بينما أتت الحقيقة مختلفة قليلا (و حتى كثيرا) عن هذه الصور الحالمة التي كانت إلى وقت قريب من المسلّمات…
فمخطئ من كان يعتقد أنها قصة عرب مسلمين هربوا من “بلاد الكفر” إلى “بلاد الإيمان” أي بلادنا، سعداء بالرسوّ أخيرا على أرض أشقّاء و أجداد، معترفين لها بفضلها، مندمجين بسرعة بين رعاياها، مضيفين إليهم من فنون و علوم أوروبا النهضة الشيء الكثير … إذ أوّلا، و هذا موضوع الكتاب، كانت لهؤلاء “هوية متفرّدة حافظوا عليها بقواعد نقل مختلفة كالتقية و السرية و التمويه” (ص 11) شأنهم شأن “أمة لها لغتها و دينها و حضارتها” (ص: 15) و قد حافظوا مثلا “على لباسهم المختلف عن العرب و البدو (التونسيين) و على اللغة الإسبانية التي يتسامرون بها” (ص: 143) كما أن “نساء تستور بقين يتبادلن الحديث بالإسبانية إلى أوائل القرن الثامن عشر” (ص: 155)
كما أن نسبتهم ـ حصريا ـ إلى مقاطعة الأندلس الإسبانية تستحق تدقيقا، إذ يوجد منهم من وفدوا من كاتالونيا و قشتالة (ص: 146) … و جميعهم خرجوا من شبه الجزيرة الإيبيرية مُكرهين لا راغبين (ص 15)… و بعضهم جاء مطرودا من فرنسا حيث حاولوا الاستقرار، رغم أن فيهم تجارا أثرياء و معارف إفرنج (ص 40) … أي أن هؤلاء لم يكونوا تونسيين من أصل أندلسي، بل هم إسبان وقع تهجيرهم بالقوة عن موطن و قارّة لم يفارقهم الحنين إليهما …
و يجد توافدهم بتلك الضخامة إلى تونس تفسيره في إطار لعبة سياسية قام بها الاحتلال العثماني … فقد كانت ” الجالية الأندلسية غريبة عن البلاد تماما مثل الأتراك … و قد جعل هؤلاء منها فئة محظوظة نسبيا بالمقارنة مع الأهالي المبعدين عن الهياكل السياسية للبلاد … فأدرك الأندلسيين شعور بالتفوق على الأهالي و هو نفس الشعور الذي نجده عند الأتراك” (ص 38) … و مقابل ذلك، كانت الجالية الوافدة تمثل قاعدة متقدمة للسلطة في عدد من الجهات، و تضع نخبها على ذمة الحكم في إدارة شؤون الدولة (ص 145)
و قد ترتبت عن ذلك نتيجتان: خلق طبقة إقطاعية جديدة تم تمتيعها بإعفاءات جبائية (ص 131) و ضيعات شاسعة بأخصب مناطق البلاد … فانتشروا في أربع من هذه المناطق: ريف العاصمة الفلاحي كأريانة و سكرة و طبربة و مرناق و رادس، ولاية نابل كسليمان و قرمبالية و منزل تميم و منزل بوزلفة و دار شعبان، سهول وادي مجردة كتستور و السلوقية، بنزرت و ما جاورها كماطر و رفراف و رأس الجبل و ماتلين و غار الملح. (ص 42) كما أنهم تحوّزوا على أراضي زغوان الثرية و مياهها (ص 132) و النتيجة الثانية، أن أهالي البلاد ضاقوا ذرعا بهذا التمييز فـ “قامت جماعات محلية (أي الشعب الكريم) بالتمرد في القرن 18 زمن حمودة باشا على الامتيازات التي حصلت عليها الجالية الأندلسية” (ص: 170)
نأتي الآن إلى باقي عناصر الهوية الثقافية لهؤلاء الوافدين … ذكرنا اللغة الإسبانية التي تشبثوا بها قرابة المائة عام، و كذلك الملابس (المختلفة عن عرب تونس و بدوها، للتذكير) و المعمار ممثلا خاصة في الجامع الكبير بتستور (ص: 150)… كما ذكر الكتاب معتقدات خرافية حول السحر و الجن مردها الخوف بسبب ما عانوه من اضطهاد في اسبانيا (ص: 139) … و تمنيت عليه لو ذكر لنا علاقة هذه الجالية بالتراث الغنائي الأندلسي بما فيه من موشحات و أزجال و مالوف … و لو أن بي شكّا في علاقتهم بذلك رغم وجود مهرجان بتستور ينسب إليهم …
ما يلفت النظر أيضا … غياب أية إضافة صناعية متطورة جاء بها الموريسكيون إلينا من أوروبا عصر النهضة، حيث عُرفت بعدُ الطباعة و أول المناظير الفلكية و حتى الميكروسكوب … دون الحديث عن الاكتشافات الكبرى التي وسّعت جغرافيا أوروبا ترابيّا و اقتصاديا و علميّا … و دون الحديث أيضا عن فنون الرسم و النحت التي شهدت تطورا مذهلا خاصة في إسبانيا (فيلاسكيز، الغريكو …)، و كذلك الأدب (سيرفانتس) و المسرح … و هنا، يقول أحد الموريسكيين المذكورين في الكتاب لصاحبه: “أُصِبنا بهوس المسرح فلا نتخلف عن أي عرض و قد نشاهد المسرحية الواحدة مرتين أو ثلاثا” (ص: 154) و هو يروي أحداثا حصلت سنة 1604 بمدينة طليطلة … فلماذا ـ يقول قائل ـ لم يجلبوا هذا الفن معهم إلى تونس في ذلك الوقت ؟!
غريب حقا … خاصة إذا عرفنا أن كل من جاء من هناك كان إما مواطنا عاديّا أو مزارعا أو فقيها (على غرار الشريف القسطلّي ـ ص: 145) أو حِرَفيّا … و على ذكر الصناعات التقليدية، فكثيرا ما راجت عندنا حكاية صناعة “الشاشية” و كأنها عملية تخصيب لليورانيوم … حتى هذه، هناك شكوك في أن موريسكيينا أتوا بها إلى تونس، إذ أن “صناعة الشاشية مثلا تنسب عادة إلى الأندلسيين، في حين كانت موجودة في تونس منذ الربع الأخير من القرن 16، أي قبل مجيء الأندلسيين إلى بلادنا” (ص: 36) … كما أن”الازدهار الذي عرفته بلادنا خلال القرن 17 لم يكن بفضل قدوم الأندلسيين و إنما يعود لانتعاشة قطاع القرصنة” (ص: 36)
و قد نفهم هذا التعظيم لفضل الموريسكيين على تونس (لا العكس) حين نجد “الرحالة الأوروبيين الذين زاروا تونس خلال القرن 18 يتحدثون عن الدور الريادي الثوري الذي لعبه الأندلسيون في البلاد التونسية منذ حلولهم بها”، فيما ” لم يعبر المؤرخون التونسيون في تلك الفترة عن انبهارهم بالحضور الأندلسي” (ص: 35) … و هنا يتساءل مؤلف الكتاب: “ألم يكن الحديث عن دور ريادي للأندلسيين مجرد أسطورة ابتكرتها المدرسة الاستعمارية؟” (ص: 35) و يستخلص نقلا عن عبد الحميد هنية: “يبدو أن المبالغة في تثمين نتائج الهجرة الأندلسية مردها تلك النظرة القائمة على الذات الأوروبية المركزية” (ص: 57)
صفوة الاعتبار … هذا كتاب يُقرأ و تُعاد قراءته، لا من الباحثين أو الشغوفين بتواريخ الشعوب فحسب … بل من أغلب التونسيين الجاهلين قدر بلادهم كملجأ لمضطهدي العالم شرقه و غربه … و خاصة أولئك الذين ـ عن حق أو باطل ـ يتبرّجون بألقاب و أنساب يرون فيها علوّا على بني وطنهم … و العار يكبر حين يكون ذلك النسب المجيد أجنبيا بالحتم … طبعا، لا ذنب للأحفاد في ما صنعه الأجداد، و لا فضل لهم أيضا … و لن ألوك شعارا عمّ حتى خمّ، حين أقول إن تونس لكل التونسيين، شرط أن يكونوا لها حصرا لا لغيرها …
لقد أُطرِد مئات ألاف الإسبان من بلدهم زمن حرب الاسترجاع و ما بعدها، و عاملهم المؤرخ الغربي “على أنهم مجموعة تحوم حولها شكوك في ما يخص ولاءها للوطن الإسباني” … فهل كثير على “الوطن التونسي” أن يطالب بولاء مماثل؟