أتدرون سادتي أن ضحايا البطالة في هذا الوطن المنكوب، المسلوب والمغلوب على أمره، أتدرون أنهم أكثر آلاف المرّات من ضحايا إرهاب “داعش” ومن جاورها…أتدرون أن كل العائلات التونسية تعيش المأساة…تعيش الوجع…تعيش الإحباط…تعيش الموت…كم من شاب مات حسرة…كم من شاب مات في المتوسط بعد أن امتطى نعوش الموت، أو قوارب “الحرقة”...
كم من شاب فقد عقله في انتظار حلّ يخرجه مما هو فيه ولم يأته…كم من شاب تحوّل إلى مجرم ومدمن مخدّرات هربا من واقع أكثر ألما… كم من شاب ذابت قدماه بحثا عن عمل ومات بعد أن خارت قواه… كم من عائلة بكت…وكم من عائلة فقدت أعز أبنائها…كم من شابة ترملت ولا تزال تنتظر جثة زوجها على شاطئ المتوسط …كم من أب باع كل ما يملك فقط من أجل أن يمتطي ابنه نعش الهجرة إلى الموت… من القاتل يا ترى…؟ هل ستسجّل كل هذه الجرائم باسم مجهول…أم ستعترف حكومات ما بعد 14 جانفي بذنبها وبجريمتها في حقّ شباب الوطن…هل خرج شباب من يسمونها ثورتهم من أجل بطاقة إيداع لصهر بن علي…أم هل خرج من أجل أن يصبح الغنوشي رئيسا، ومحمد عبو وزيرا؟ هل خرج شباب ثورتهم من أجل أن يسمح له بارتداء قميص أفغاني لونه يصيب بالغثيان، وصلاة ركعة على الحساب إلى أن يأتي يوم الحساب؟ لا …جميعهم خرجوا من أجل التشغيل…
فهل بحث من استولوا على الحكم بعد 14 جانفي عن حلول جذرية تقطع الطريق أمام الموت البطيء الذي يعيشه شباب البلد، وتكتوي بناره كل العائلات التونسية؟ هل حاولت إيقاف نزيف المطلبية لتوفير مواطن شغل للعاطلين؟ هل جمّدت الزيادات في الأجور من أجل توفير موارد مالية تغطي حاجيات تشغيل العاطلين؟ لا…لم تفعل كل حكومات عهد الخيبة ما كان يجب أن تفعله، بل امتطت جميعها قطار استمالة وترضية كل القطاعات انتخابيا بإغراقها بالزيادات…واصبحت الاعتصامات وسيلة مربحة وفعالة للفوز بالزيادات وتسوية الوضعيات…واصبحت النقابات شريكا رسميا في إغراق المؤسسات بالانتدابات الغريبة والعجيبة…وبأبناء أعضاء النقابات الاساسية وأقاربهم…فالاتحاد هو المنظمة الأكثر تشغيلا لأبنائها منذ 14 جانفي 2011 وقد تصل نسبة البطالة في عائلات أعضاء بعض النقابات القطاعية إلى الصفر…
وأظن أنه على كل من حكموا بعد خروج بن علي رحمه الله وسفره لأداء مناسك الحج والعمرة الاعتراف بأن هناك قصورا كبيرا ومفزعا في تسوية ملف العاطلين عن العمل…وعليها أن تعترف أيضا بأنها لم تبحث عن حل جذري لمعضلة البطالة بل تلاعبت بهذا الملف وجعلته آلية من آلياتها الانتخابية… فكم من مشروع استثماري تعطل وانسحب المستثمر نتيجة التعقيدات الإدارية أو اللامبالاة التي تعاملت بها الإدارة مع المشروع… فضاعت آلاف فرص العمل …وأحبطت بذلك الآلاف من الشباب العاطل الذي يبحث عن لقمة العيش؟ وكم من مستثمر أغلق مشروعه خوفا وهربا من الفوضى التي أصبحت الخبز اليومي على مدى سنوات بالشراكة مع النقابات وسط غياب كامل للدولة؟ وكم من مشروع فلاحي افتُكّ من أصحابه فماتت الأرض ومن عليها؟ كم مصنع اغلق ابوابه بسبب الخسائر وارتفاع كلفة الإنتاج والمطلبية المشطّة للزيادات، والاضرابات العشوائية المدعومة من النقابات؟
الجريمة هي إذن جريمة كل الحكومات من حكومة قائد السبسي رحمه الله إلى حكومة قرطاج اليوم…فالموت البطيء سيتواصل…والقتل مع سابقية الإضمار والترصّد سيتواصل…والحزن سيسكن طويلا كل البيوت والمنازل…وستتواصل المأساة…وكأني بالموت أصبح قدر شباب هذه البلاد…وكأني بالقانون 38 سيصبح هو أيضا من أدوات قتل مستقبل هذه الأمة…وهذا الوطن الموجوع…وكأني بإرهاب البطالة سيواصل حصده للأرواح…فيا إرهاب البطالة…أما آن لك أن تستريح…وتريح…أم ستواصل القتل…فاقتل ما شئت…متى شئت…كما شئت…فلا أحد سيمنعك…فحكام دولتنا مشغولون بالتباهي والتفاخر بما حققوه…وما فعلوه…وبالخراب الذي صنعوه…وبالحقد الذي زرعوه…
اقتل ما شئت أين شئت…فحكام دولتنا في أحلامهم يسبحون…وعن نظامهم الجديد يتحدثون….وبشركاتهم الأهلية يبشّرون…أقتل ما شئت…ومن شئت …وكيف شئت، ولا تبال…لصراخ الثكالى…وبكاء الأرامل…وصراخ أبناء من ماتوا غرقا في المتوسط…وأكلهم أغنياء البلد في بطون حوت فاخر …على مائدة لا يحلم بها الفقراء…اقتل ما شئت حتى فتات الأمل الباقي…