جور نار
بالأمس كان اسمها سعاد … واليوم اسمها نورهان !
نشرت
قبل سنتينفي
من قبل
عبير عميش Abir Amichالسّادسة و النّصف مساء أو بعدها بقليل … لم يبق سوى ربع ساعة على توقيت الإفطار … رأيتها تدفع عربتها و تنحني لتلتقط إحدى القوارير البلاستيكية و بجانبها ابنتها الصّغيرة …
توقّفتُ و نزلتُ، لأسلّمها من سيارتي مجموعة من القوارير الفارغة و دفعني الفضول إلى الحديث معها فسألتها عن سبب وجودها بالشّارع و عملها حتّى هذا الوقت خاصّة و نحن في شهر رمضان و كان يجدر بها في مثل ذاك التوقيت أن تكون بصدد الاستعداد للإفطار، فقالت: ” رمضان عندي و عند اللي كيفي لا يختلف عن غيره من الشّهور .. يلزمني نخدم باش نصرف على روحي و على بنتي .. ” عرفت أنّها أصيلة إحدى المناطق الدّاخلية و أنّها من أسرة كبيرة غير أنّ والدها قبل وفاته سجّل ما يملكه من أراض شاسعة باسم إخوتها الذكور و حرمها و شقيقتها من الإرث … أمّا زوجها فهو كما تقول ” قلبه بارد” و لا يعمّر في أية مهنة يمتهنها ويرفض العمل في شهر رمضان و يقضي نهاره نائما في البيت و يمضي لياليه في المقهى المجاور، و هي مضطرّة للإنفاق على البيت و على زوجها الذي لا يفكّر إلا في نفسه و في ملذّاته
تركتها و أنا أفكّر فيها و في مثيلاتها ممّن قست عليهنّ ظروف الحياة و سلبهنّ المجتمع و العادات و التقاليد حقوقهنّ و حرمهنّ الواقع الرّاحة و الطمأنينة
في نفس الليلة تداول روّاد الفايسبوك خبر مقتل الضحيّة سعاد الصويدي خنقا على يد زوجها في القيروان
سعاد، ليست الضّحيّة الأولى و لن تكون الأخيرة مادمنا في مجتمع يعطي الأولويّة للرّجل و يجعله يتحكّم برقاب “حريمه” أمّه و ابنته و أخته و زوجته و حتّى صديقته ..
سعاد، ليست الضّحيّة الأولى و لن تكون الأخيرة مادامت حقوق المرأة مجرّد شعارات نتشدّق بها منذ عقود في هذا البلد و مادام عيد المرأة مجرّد احتفالات فلكلوريّة تتجدّد كل سنة دون أن يصاحبها تغيير في مستوى السّلوك والعقليات ..
سعاد، ليست الضحيّة الأولى و لن تكون الأخيرة في مجتمع تنعدم فيه المساواة الحقيقيّة و تعشّش روح الجاهليّة و التعصّب لدى أغلب فئاته و يعيش أفراده ازدواجيّة غريبة بين الظاهر و الباطن ..
سعاد، ليست الضحيّة الأولى و لن تكون الأخيرة مادام المجتمع يجد للأزواج القاتلين التّبريرات و مادامت الشتائم و الاتهامات تنصبّ على القتيلات دون مراعاة للكرامة الإنسانيّة فالنّساء سبب كلّ الآثام و أصل كلّ الشّرور ..
سعاد، ليست الضّحيّة الأولى و لن تكون الأخيرة في مجتمع يعاني أغلب أفراده من الاضطهاد و يتسلّط فيه القويّ على الضعيف الذي يتسلّط بدوره على من هو أضعف منه ليتحوّل كلّ فرد من ضحيّة إلى جلاّد، و يضطهِد فيه المُضطَهَدُ من هو أضعف منه و هل أضعف من المرأة في مجتمعنا الذّكوريّ ؟؟
سعاد، ليست الضحيّة الأولى و لن تكون الأخيرة في بلد تؤكد الإحصائيات الرسمية فيه أن حوالي 75% من إجمالي حالات العنف المسلط ضدّ المرأة صادرة عن عنف زوجي، في بلد سجّل 15 جريمة قتل للزوجات سنة 2022 وحدها ..
سعاد ، ليست الضحيّة الأولى و لن تكون الأخيرة في دولة لم تضع استراتيجيات و خططا لحماية النّساء و لم تفعّل القانون 58 لسنة 2017 و لم تعمل على اتباع مقاربة شاملة تدمج الجوانب الثقافيّة و التربويّة و الحقوقيّة للقضاء على أشكال العنف القائم على التّمييز بين الجنسين …
خبر مقتل سعاد ذكّرني في قوله تعالى في سورة التّكوير :” وإذا الموءُودةُ سُئلت بأي ذنبٍ قُتِلَتْ ” فلا فرق بين وأد البنات في الجاهليّة و قتلهنّ مادّيا و معنويّا في مجتمعاتنا التي مازالت ترتدي روح الجاهليّة و تلبس قشرة الحضارة ..
خبر مقتل سعاد ذكّرني كذلك في كتابات و أقوال مجموعة من المدافعين و المدافعات عن حقوق المرأة و م بينهم الفنّانة و الكاتبة العراقية عفيفة العيبي التي تقول : ” أنا لا أؤمن بكل ما ذكر في الكتب الدينية حتى ولو كان صحيحاً فما يناسب المرأة في العصور الغابرة لا يناسب المرأة في هذا العصر، وأنا أقولها بملء فمي أنا لست ناقصة عقل كما ذكر في الحديث ولست عورة كما ذكر في حديث آخر ولست نجسة كالكلب الأسود ولا حتى الأبيض ولا أرضى أن يقال بأن ديتي في حالة قتلي نصف دية الرجل فأنا لست أقل أهمية من الرجل ولست نجسه حتى أنني أنقض وضوء الرجل بمجرد الملامسة ولست بلا إحساس لأبقى أربعة أشهر وعشرة أيام في المنزل حداداً على رجل قد يكون أذاقني الأمرّين في حياته ولن أرضى أن أحبس في المنزل حتى لا يفتن بي رجل مّا، ولن أرضى أن أغطي وجهي وكأنني أخجل منه ولست ضلعاً أعوج ولا قارورة ولا أرضى أن يتم قرني بالدابة..
“ولماذا أصوم وأصلي وأحج وأعمل العبادات وحينما أموت وزوجي غير راض عني أدخل النا، ولماذا تقوم الملائكة بلعني حينما أرفض طلب زوجي في الفراش وحينما أقوم أنا بطلبه ويرفض فليس عليه شيء ولن تغضب عليه الملائكة، ولماذا حينما يُتوفى والدي – شفاه الله – أعطى نصف ما يعطى أخي من الإرث بالرغم من أنه عاش حياته منذ تخرجه من الثانوي لنفسه وتزوج أمريكية وعاش في ديارها ولا يسأل عن والده إلا نادرا، وأنا من قمت بخدمة والدي أثناء مرضه وكنت أسهر الليالي بجانبه وصرفت عليه وعلى علاجه من مالي وأجلت زواجي وعطلت الكثير من أمور حياتي ومع هذا فأنا بحاجة للمال وأخي غني جدا، ولن أرضى أن أكون مجرد جارية ضمن أربع جوارٍ يأتيني الرجل ستّ مرات في الشهر وكأنه متفضّل علي بهذه المرات الست، ولن أرضى أن يضربني زوجي حتى ولو بمسواك بحجة إنني امرأة ومن حق الرجل أن يؤدب امرأته ولن اقبل أن يرفض زوجي مساعدتي مالياً لعلاجي حينما أمرض بحجة أنه ليس من واجبه شرعاً علاجي أو شراء كفني بعد مماتي، ولا أرضى أن يكذب علي زوجي لأن الكذب على الزوجة يجوز شرعاً،
“يؤسفني أن المرأة ليس لها الحق في تقرير مصيرها فيستطيع الزوج تطليقها متى ما شاء وإعادتها متى ما شاء وكأنها نعجة يقودها كما يشاء ويبيعها متى ما شاء ويؤسفني أن الزوجة حينما تريد الطلاق يقال لها ردي له مهره حتى لو كان قد مر على زواجها ستون سنة، ويؤسفني أن المرأة تعطى مهراً عند الزواج وكأنها بضاعة تشترى بمقابل، لا أرضى أن يعتبرني احدهم ابتلاء ابتلى به الله والدي الذي سيدخل الجنة إن صبر على بلواه أي أنا وأخواتي البنات، ولماذا أطرد من رحمة الله بمجرد أنني نتفت إحدى شعرات حاجبي أو لبست الباروكة، ولماذا لا تدخل الملائكة المنزل وأنا كاشفة لشعري، ولماذا حينما يغيب عني زوجي ولا اعرف عنه شيئاً يجب أن انتظره أربع سنوات قبل أن يطلقني القاضي، ولماذا مع كل هذا الاحتقار للمرأة والإنقاص من آدميتها وتفضيل الرجل عليها واعتباره أكفأ وأعقل وأعلى منها بدرجة وهو الوصي عليها والمسؤول عنها إلا أنها حينما تخطيء فهي تأخذ نفس عقوبة الرجل ومع هذا (هنّ أكثر أهل النار) … “
و أنا أضع اللّمسات الأخيرة على المقال طالعني خبر مقتل زوجة أخرى على يد زوجها بالمنزه السّادس في العاصمة فلم تعد سعاد الضحيّة الأخيرة فعلا …
بالأمس كان اسمها سعاد و اليوم اسمها نورهان …
سعاد الصويدي قتلت خنقا و نورهان الدريدي قتلت طعنا بسكّين و قبلهما قُتِلت وفاء السبيعي حرقا وقُتِلت رفقة الشارني رميا بالرّصاص .. و قبلهنّ كثيرات و كثيرات .. و غدا على من سيكون الدّور؟؟
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
الميدان التليفزيوني عشت فيه تجارب اخرى احداها مع الزميلة جميلة بالي كمخرج لبرنامجها البيت السعيد …والسيدة جميلة بالي هي بالنسبة لي من افضل من قدم هذه النوعية من البرامج والتي تهتم بالاسرة وبالبيت …
حضورها تلفزيا كان دافئا وثقافتها بكل ما يهم الاسرة والبيت شاسعة… لذلك حرصت كمخرج ان اوظّف الديكور والاضواء وزوايا التصوير لابرازها بمواصفاتها… تجربة اخرى اعتز بها بل واعتبرها من افضل تجاربي كمخرج تلفزي… انها منوعة قناديل … هي منوعة ثقافية بالاساس اجتمعت فيها عناصر عديدة لتؤسس لنجاحها لدى المشاهدين… تلك العناصر تمثلت اوّلا في حذق منشطتها الزميلة ابتسام المكوّر وجديتها وعمق خزانها الثقافي… ابتسام بالنسبة لي وفي ذلك الزمن كانت تمثل واحدة من افضل المنشطات اذاعيا وتلفزيا، هي وهالة الركبي… حضور متميز… ثقافة واسعة… وقدرة فائقة على التحاور…
العنصر الثاني تمثّل في مشاركة الاستاذ رضا بسباس في الانتاج اوّلا وفي تناول الموضوع المقترح لكلّ حلقة… وما ميّز الزميل رضا بسباس البحث في جوانب طريفة عبر العديد مما كُتب في الموضوع وعبر الامثال الشعبية لنفس الغرض… العنصر الثالث وهو من العناصر التي اعطت رونقا خاصا لبرنامج قناديل والمتمثل في تكفّل الزميل والصديق محمد العود رحمه الله بالجانب الموسيقي للبرنامج… محمد رحمه الله كان شديد الحرص على الانتقاء الجيد لنوعية الاغاني الخالدة واعادة توزيعها، و على اختيار الاصوات المؤدية لتلك الاغاني… محمد رحمه الله كان من الفنانين القلائل الذين لا عاطفة لهم في اختياراته وهو كسمّيع جيّد للعزف والتنفيذ صعب المراس… لذلك جاءت نتيجة تفانيه في عمله موسيقيا جيّدة للغاية…
وحرصت من جانبي على ان اتماهى مع هذه المجموعة لاخرج برنامج قناديل في حلّة جميلة… وهنا لابدّ من تحية الفنان الاستاد لمجد جبير الذي تكفل بصنع الديكور كاوّل تجربه له في الميدان التلفزي… والزميل نورالدين بوصباح كمدير للاضاءة وكافة الفريق التقني الذي عمل معي بكل حبّ وجهد … البرنامج لقي صدى ممتازا لدى السادة المشاهدين مما جعل بعض التلفزات العربية (كالـ”ام بي سي”) تفكّر في شرائه… هكذا قيل لنا والله اعلم….
نهاية برنامج قناديل لم تكن سارّة بالمرّة … نعم … وهاكم الاسباب… انا وابتسام كنا ومازلنا صديقين علاوة على الزمالة …ربما لاننا نشترك في خاصيات عديدة في شخصيتينا ..ومن ضمنها النرجسية …اي نعم .. اليس كذلك يا ابتسام ؟؟… من هذه الزاوية ابتسام كانت حريصة جدا على انتاج حلقات قناديل في موعدها وهي مُحقّة في ذلك …لكن وبقدر حرصي كذلك وعلى امتداد حلقات عديدة كي انجز تلك الحلقات اخراجا ومونتاجا وميكساجا، بقدر ايماني بانّ عملي يدخل في خانة الفنّ وليس في خانة الوظيفة .. والفنان بالنسبة لي قد تعتريه اوقات يجد فيها نفسه غير مؤهل للعمل …فيؤجل القيام بعمله لايام افضل …حدث هذا الامر مرة واحدة لم استطع فيها القيام بواجبي لاحضار الحلقة في موعدها ..هنا ثارت ثائرة ابتسام ولم تقبل بالامر …وكعادتها عندما تكون غاضبة زمجرت في وجهي وبكلّ حدّة …
ولانّ نرجسيتي لا تقلّ عن نرجسيتها ..رفضت زمجرتها وبكلّ حدّة ايضا وقلت لها (مانيش صوينع نخدم عندك) وانسحبت من اخراج البرنامج …وطبعا كان موقفها (محسوب كان انسحبت توة نعيّط لسي بوبكر) وهي تعني الزميل بوبكر العش رحمه الله… و(طززز فيك) .. هي لم تقلها للامانة طززز فيك ولكن ذاك كان موقفها ضمنيا …وفعلا اخذ زميلي العش على عاتقه مهمة اخراج قناديل بتصور اخر وديكور اخر …لكنّ التجربة لم تعمّر كثيرا ..ليس قدحا في امكانيات المرحوم ابو بكر بل ولانّي اعرفهما بعمق كنت واثقا انّ التناغم بينهما لن يكون في اوجه ….
تجربتي الثالثة في الميدان التلفزي كانت في خانة اخراج المباريات الرياضية (كرة قدم)… هذه التجربة سبقها تدريب تكويني في الغرض بدمشق ولمدة 21 يوما بمركز تابع للاتحاد العربي للاذاعة والتلفزيون سنة 1996… بعد اتمام التدريب الذي كان على درجة متميزة نظرا لكفاءة المؤطرين، كلّفتني ادارة التلفزة باخراج بعض مباريات النادي الصفاقسي سواء في البطولة الوطنية او في المسابقات الافريقية … وكنت فيها فاشلا بكلّ المقاييس … نعم … نقل واخراج المباريات الكروية يتطلب عنصرين هامين… اوّلهما التركيز الكلّي على مجريات اللعب مع الحرص على اختيار زوايا مختلفة لتنويع المشهد… والحرص خصوصا على عدم التفويت في ايّة لقطة هامة في المباراة ..وهنا ياتي دور العنصر الثاني وهو سرعة رد الفعل للمخرج في اختيار الكاميرا المناسبة التي تصوّر اللقطة الهامة… هدف او ضربة جزاء او اعتداء لاعب على اخر كامثلة …
قلت اني فشلت فشلا ذريعا في اخراج هذه المقابلات اوّلا خوفي من تفويت اللقطات الهامة اجبرني على اختيار الكاميرا التي ينحصر دورها في تصوير المشهد العام Plan général ///ككاميرا رئيسية طوال فترات اللعب ..وهو ما يجعل اللاعبين اشبه بالذباب فوق الشاشة .. ثم انتمائي وعشقي للسي اس اس جعلني في احيان كثيرة اتماهى مع لاعبي النادي بشكل ذاتي وانسى دوري كمخرج …اي نعم لم استطع في عديد اللقطات التخلص من ذاتيتي… بل احيانا كنت اصفق وارقص عندما يسجل فريقي هدفا ما وكاني واحد من قوم الفيراج … ولانّي كنت وخاصة في ما يتعلق بالامور المهنية قاسيا جدا في الحكم على نتائج الاعمال، ..اعتذرت لادارة التلفزة عن مثل هذه الاعمال التي كانت رديئة فعلا بمنظار علمي ..وادارة التلفزة كان موقفها من قراري (الحمد لله جات منك يا ميضة انت ناشفة وانا تارك صلاة) …
التجربة الاخيرة في الميدان التلفزي كمحرج خضتها مع زميلي زهير بن احمد ..كان البرنامج يحمل عنوان (دروب وآفاق) ..وهو ايضا من النوع الوثائقي …تنقلنا فيه الى عديد المناطق في صفاقس وخارجها لتصوير دروبها وآفاقها … كان فيها الزميل زهير ذلك الصحفي الهادئ الرصين والمتمكن وبحرفية من عمله ..وكنت فيه المخرج الذي حاول قدر الامكان ان يجتهد في حدود ما يتطلبه الشريط .. ولعلّ ابرز الحلقات التي بقيت راسخة في ذاكرتي حلقة تناولت صفاقس الجديدة كمشروع… حيث وقع هدم القناطر الثلاث التي كانت موجودة انذاك بطريق تونس وقرمدة والعين ..وحيث وقع ايضا تصوير اوّل قطار يدخل لصفاقس بعد تحويل مساره من صفاقس الى قابس …
تلك كانت تجاربي في ميدان التلفزيون كمخرج وكمنتج احيانا والتي لا يمكن في باب تقييمها الا بوصفها بالمتواضعة جدا ..ودون ما كنت اطمح اليه …
ـ يتبع ـ
عبد القادر المقري:
نحتار حقا في توصيف ما جرى السنة الأخيرة في منطقتيْ شمال فلسطين وجنوب لبنان… ومبعث الحيرة هذا الدفق اللامتناهي من الدماء والدموع والشجن الذي يملؤنا ولا يترك وقتا ولا مجالا إلا للانحياز للمقتول ضد القاتل، وللمغتصب ضد الغاصب، وللمنزل الطائر شظايا ضد الطائرة الحاملة دمارا وعدوانا.
الدافع الثاني للحيرة هو ما يمكن تسميته بجلال الموت… نعم، ليس هناك من دليل أعلى على صدق أحد وبطولته وصفاء نواياه من أنه يقدم نفسه فداء لقضية ما… لذلك رحنا نطلق صفة الشهادة على من نتفق معه وهو حي، كما نطلقها على من نختلف معه حتى كليا عندما كان من هذه الدنيا… لا، الآن وبعد أن أهدى روحه على ميدان المعركة، فلا تجوز عليه سوى الرحمة والإكبار والتعميد بصفة الشهيد البار… المشكلة أن هذا المنطق يصلح في آداب التعامل مع الموت، في التنفيس عن مشاعر حنق تجاه عدو رئيسي ووجوديّ مكين… يصلح أيضا في رومانسيات الحروب وفرسانها الذين يستبسلون في معركة ويتحوّلون إلى أيقونات أمام عيون الصغار ودروس التربية الوطنية ومعاني الوطن… والعَبرة التي نشرق بها ونحن ننشد لحن الوفاء له، كلما رفرف علم وخفقت جرّاءه قلوب وتنادت أفئدة…
وتكبر الحيرة حين تختلط مع الرحيق المقدس أوشابٌ وأتربة وتساؤلات… نعم … للأسف لا تخلو كأسنا التي نتجرعها من بعض العلامات التي تجعلنا نتردد والزجاج الناعم يقترب من شفاهنا… جاء التردد من استرجاع بعض الصور والذكريات القريبة والبعيدة التي تقول لنا حذار… انتظروا… فاللون الأبيض النقي هو لون السكّر والملح في آن واحد، ورعود السماء تأتي بالمطر الطيّب والصاعقة القاتلة لنفس المُزارع المنتظر تحت شجرة… والبحار الطامية هي خير وسمك وبركة للصياد وهي أيضا الهلاك والغرق… تتشابه الأشكال بين مواد عدة وظواهر، ولكن هل تطابقت دوما الظواهر والجواهر؟
وتتداعى التمثّلات… ولكن على الأرض ماذا نقول في من قتلوا أنفسهم في عمليات داعش، وقتلوا معها تلاميذ مدرسة أو متزاحمين في سوق أو مصلين في جامع؟ … وماذا نقول في سقوط إرهابي صريعا ذات مواجهة مع الشرطة ويداه ملطختان بدم شكري بالعيد؟… وماذا نقول في المئات ممن غُسلت أدمغتهم فصاروا يعتبروننا كافة دار حرب وأقسموا على تصفيتنا فرادى وجماعات وهم معنا بالحزام الناسف؟ … للعلم فلهؤلاء مفتون من فئة خميس الماجري وأبي عياض والمرحوم حسن الغضباني، يسبغون عليهم نعت الشهيد بابتسامة هانئة وقلب مستريح… بل وينضمّ إليهم مذيع تافه لا همّ له سوى الحفاظ على كرسيّ أمام الكاميرا وريع سمين تحت أرجل الكرسي …
نهتف حتما للأبطال الذين استشهدوا، مع حسرة على فقدانهم وأمنية بأن يقتلوا العدوّ لا أن يسقطوا صرعى… الشهادة لهم لكن لنا الهزيمة في آخر المطاف… وهزائم الحروب ليست إنشاء ولا شعرا ولا لعبا بالمصطلحات… هي حصائل باردة لواحد مع واحد يساوي اثنين… من الذي خرج من الميدان (ولو شهيدا) ومن الذي بقي حيّا يصول ويجول؟… وهنا لا ينفع التأبين ولا التعظيم ولا الخلود ولا قناة الجزيرة… منطق الحرب أن تعيش لا أن تموت، وهذه أهم توصية تصدر عادة عن القادة وهم يوجهون جنودهم في مهمة… وحتى إذا شاء القدر وترك الواحد حياته على ساح الشرف، فيكون في المقابل أوقع بأعداد وافرة من صفوف العدوّ قبل أن يبذل الدم والروح…
ولكننا في هذه الموقعة إلى أين وصلنا وكم خسرنا من أرواح وكم خسر العدوّ؟ وكم كانت كلفة 7 أكتوبر 2023 وماذا كسبنا خلالها وأية رقعة حرّرنا؟ … دائما بمنطق الحروب القاسي، هذا ما حصل… عشرات الآلاف من مدنيي غزة والضفة وجنوبي لبنان، أعداد من “العسكريين” شبه العزّل تختلف الأرقام في تقديرها بين المتحاربين، ولكنها في النهاية كبيرة وموجعة… ويكفي أنها حرمت المقاومة من أهم قادتها وحتى التالين في الأهمية… دون الحديث عن دمار شامل فعلا لمدن وقرى وبلدات ومبان ومرافق تعجز قوى عظمى عن إعادة إعمارها بسرعة لو تمّت على أراضيها إثر كارثة طبيعية… فكيف بنا ولا زلزال سُجّل في غزة أو إعصار ضرب جنوب لبنان…
الزلزال الوحيد الذي ضرب أهالينا هناك كان قرارا بحرب غير متكافئة، سيئة التوقيت والحساب… بل ويجعلك تتساءل بعد هذا العبث وذلك الدمار: لفائدة من كل هذا؟ ولماذا انتقلت القضية من هدف تحرير الأرض إلى المناشدة بوقف إطلاق النار؟ ومن يعوّض لمن تيتّم أو ترمّل أو ثكل؟ ومن يؤوي الذين تشرّدوا؟ أم نكتفي بآية “لا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله…”، وبمقولة ذلك القيادي في حماس عن مدى انشغاله بملايين المدنيين المعرّضين للقصف والموت: أولئك مسؤولية المجتمع الدولي؟!!!
محمد الزمزاري:
إثر تصميم الغربيين على تزويد اوكرانيا بصواريخ بالستية لضرب روسيا في العمق و تنفيذهم ذلك على الرغم من الإنذارات والتهديدات الروسية المتتالية التي يبدو اول الأمر أن الغرب لم يأخذها مأخذ الجد، كشف فلاديمير بوتين عن بعض نماذج من ترسانته العسكرية كما أدى زيارة هامة إلى كازاخستان خلال هذا الاسبوع مصرحا ان هذا البلد صديق لروسيا وشريك يعتمد عليه.
وتكتسي هذه الزيارة طابعا عسكريا اكثر من اي شيء آخر كما تخللها عرض لبعض من ترسانة موسكو العسكرية، و كذلك لما يعرفه الروس عن ترسانة الغرب بالتفصيل و بدقة متناهية و أماكن تركيزها وتحركاتها بالإضافة إلى مقارنة قدرات كل صاروخ بالستي فرنسي كان او ألماني او انكليزي او أمريكي بما يقابله من بالستي روسي… وأكد الرئيس الروسي ان مخزون بلاده من هذه الأنواع كاملة يفوق اكثر من عشر مرات ما تحويه ترسانة الغرب برمّتها، مما دفع الغربيين إلى وضعية جديدة من الاستنفار والاجتماعات المعلنة و السرية أيضا للناتو، هذا بالإضافة إلى ردود فعل حول تصريح فلاديمير بوتين الذي استشاط غضبا امام تحدي الغرب ووقاحته المتعمدة.
لقد ايقنت الدول الغربية اخيرا ان بوتين أنهى المزاح والتهديدات المحدودة ومر إلى قرارات وشيكة بالدخول في حرب للدفاع عن روسيا التي مثلت وتجسم اليوم إرث الاتحاد السوفياتي التي تم تدميره وها أن الناتو يرغب في الاجهاز على روسيا بدورها عبر استنزافها اقتصاديا واجتماعيا و عسكريا وفرض حرب بالوكالة من خلال “حصان اوكرانيا”. ويبدو أن الكريملين كان يفهم هذه المخططات ويحاول جاهدا الاستعداد لها جيدا باعتبارها محددة لمصير روسيا وصورتها التي ستثبت اما تأكيد قوتها و مكانتها الاستراتيجية او انحلالها وعلى الأقل اضعافها. ويتبين ذلك اعتمادا على مخطط حرب غربية واردة مع الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة العدو الأكبر والأخطر على جميع الواجهات اقتصاديا خاصة وعسكريا أيضا. وكان لابد قبل ذلك من إزاحة روسيا من الطريق او القضاء على ترسانتها للتفرد بالغول الصيني.
فشلت الحرب الاقتصادية الغربية ضد الروس بل ان هؤلاء فرضوا وجودهم بالبلدان الافريقية ونجحوا في تخطي كل المعطلات لاقتصادهم و أسسوا تجمعا نقديا و اقتصاديا جديدا (البريكس) توسع وعلى بابه اليوم قائمة كبيرة من منتظري الانخراط. كل هذا بالإضافة إلى إبرام اتفاقيات تعاون عسكري مع إيران ودعم التقارب الوثيق مع كوريا الشمالية التي بادرت بإرسال اكثر من 10 آلاف جندي لمساعدة روسيا في حربها ضد اوكرانيا.
واذا رجعنا للحرب الروسية الاوكرانية التي دامت طويلا جراء الدعم غير المسبوق من الناتو لكييف، يستوجب الإشارة إلى ان روسيا لم تكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي منشغلة بالحروب الميدانية التقليدية قدر ما ركّزت على تنمية الاقتصاد ورفاه السكان الذي كان متدهورا. أما الجانب الذي لقي الأكثر عناية فهو الأبحاث العسكرية و تعزيز القدرات النووية التي يرى الروس انها اهم رصيد دفاعي او هجومي… كما بلغ الجانب الاستخباراتي أيضا أوجه ويكفي التذكير بان اعدادا وافرة من الكوادر السامية والقيادات المؤثرة ثبت زرعها في مواطن القرارات والأبحاث و الاستخبارات وحتى التاثير على الانتخابات بالغرب، وخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية…
بعد الانذار الاخير لبوتين استشعر الغربيون انهم لم يتركوا للدب المفترس اية فرصة غير الاستماتة في الدفاع عن عرينه. وفي هذه المرحلة الدقيقة التي تجسم قمة استعراض القوى بين غرب متخوف من عودة ساكن للبيت الأبيض لا يرغب كثيرا في إرهاق الخزينة الأمريكية لصالح الناتو او حرب اوكرانيا، وبين تهديدات تبدو جدية من ساكن آخر في الكريملين، نرى ان نتاج هذه الأوضاع ستكون حتما إما انهاء حرب اوكرانيا لصالح موسكو وربما يرفق ذلك بتنازل روسي طفيف عن جزء محدود من شرق اوكرانيا ووضع حد لكل التضييقات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات المتتالية ضد روسيا، او التورط في حرب عالمية كان الجميع يستبعد وقوعها، اذا ما اختلط الغباء الغربي بالعقلية الكوباوية للرئيس الأمريكي القديم الجديد.
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 18 ساعة
ورقات يتيم… الورقة 92
- اقتصادياقبل يومين
النكهة التونسية في الصالون الدولي للشكلاطة والمرطبات
- اجتماعياقبل يومين
غدا الاثنين… انطلاق امتحانات الثلاثي الأوّل
- ثقافياقبل يومين
اختتام أيام قرطاج المسرحية
- ثقافياقبل يومين
قريبا… “أيام سينما الجبل” بعين دراهم، والسينما التونسية إلى أين؟
- صن نارقبل يومين
الذكاء الاصطناعي و إدارة المشاريع بتونس
- صن نارقبل يومين
مستبقا صراعه مع الصين… “بايدن” يمهّد لخلفه “ترامب”، الطريق نحو إفريقيا
- صن نارقبل يومين
“الأونروا”: أكثر من 415 ألف نازح بغزة يحتمون في مدارسنا