لم يحدث أن تعرَّض رئيس أمريكي سابق لأية إجراءات خشنة مماثلة.
<strong>عبد الله السنّاوي<strong>
بدت مداهمة قصر “دونالد ترامب” في منتجع “مار لاغو” بولاية فلوريدا كمشاهد مقتطعة من أفلام المافيا، فهو متهم من مكتب التحقيقات الفيدرالي بإخفاء وإتلاف وثائق دولة على درجات مختلفة من السرية، وهو اتهام يعرض صاحبه للزج به خلف أسوار السجون. فيالمشهد الهوليوودي تفسيرات وتأويلات ذهبت باتجاهات متناقضة. بعضها أكدت أن المداهمة والتفتيش في أنحاء المكان خضع لإجراءات أمنية وقانونية منضبطة بموافقة قاضٍ فيدرالي وفق معطيات مقنعة.
إنها إذن “دولة القانون” و”لا أحد فوقها” ــ بتعبير رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، فـ”الرئيس جو بايدن لا يتدخل في أعمال العدالة ويحترم القانون” ــ بتعبير آخر للبيت الأبيض. وبعضها الآخر ذهبت إلى اتهام البيت الأبيض بـ”تسييس العدالة” للحيلولة دون خسارة شبه مؤكدة للحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية لمجلسي الكونغرس بالخريف المقبل وقطع الطريق على ترامب من العودة إلى البيت الأبيض إذا ما فاز بالانتخابات الرئاسية لعام (2024)، وهو احتمال غير مستبعد بالنظر إلى التراجع الفادح لشعبية بايدن في استطلاعات الرأي العام. إنها إذن إجراءات مسيسة وحملة مطاردة لأسباب لا علاقة لها بالقانون، على النحو الذي يحدث في ديكتاتوريات العالم الثالث وجمهوريات الموز ــ كما يقول ترامب وأنصاره فى الحزب الجمهوري. وسط فوضى التفسيرات والتأويلات المتناقضة يتبدى مستقبل الولايات المتحدة معلقا على تفاعلات صاخبة في بنية مجتمعها وتساؤلات قلقة عن المدى الذي سوف يذهب إليه انحدارها في موازين القوى والحسابات الدولية بعالم يتشكل من جديد.
يصعب تصديق أن بايدن لم يكن على علم مسبق بالمداهمة، أو أن وزير العدل لم يخطره مسبقا. أيا كانت قوة الحجج القانونية فإن التسييس لا يمكن نفيه في واقعة المداهمة. بنفس القدر فإن ترامب آخر من يحق له أن يتحدث عن ديكتاتوريات العالم الثالث وجمهوريات الموز، إذ أعرب أثناء ولايته أكثر من مرة بصيغ متعددة عن أمله أن يحكم بلاده على النحو الذي يجرى في العالم الثالث، أو أن يكون بوسعه تمديد ولاياته بأكثر مما يتيحه الدستور الأمريكي. لم يعترف بهزيمته الانتخابية أمام غريمه الديمقراطي “بايدن”، استخدم كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة، القانونية وغير القانونية، لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسية، خرق أية قواعد ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، شجع أنصاره على حصار مبنى الكابيتول واقتحامه بالقوة لمنع اعتماد فوز بايدن بالرئاسة. كانت تلك جريمة مروعة بحق أية قواعد ديمقراطية بنت صورة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كقوة عظمى توافر لها، بالإضافة إلى إمكاناتها العسكرية والاقتصادية الهائلة، نموذج ديمقراطي تعددي ملهم وقوة ناعمة نافذة يلخصه سحر هوليوود.
كل ذلك يوشك الآن أن يتبدد وسط التحولات الدولية العاصفة والعيوب الجوهرية في بنية المجتمع الأمريكي وأخطرها العنصرية المتأصلة، التي عبر “ترامب” عن توحشها إلى حد وضع البلاد كلها على حافة المواجهة والتقسيم. أحد التفسيرات المتماسكة نسبيا لما وراء مداهمة قصر ترامب أن “الدولة العميقة»” بأجهزتها المختلفة لا تود أن تراه مرة أخرى في البيت الأبيض على ما يؤكد مع أنصاره. فـترامب صعد إلى المقعد الرئاسي من خارج المؤسسة بخطاب شعبوي مفرط استقطب به إحباطات الأكثرية البيضاء وتحميلها كل ما هو ملون مسئوليتها. تمرد على المؤسسة وخرق قواعدها والتزاماتها، وتصرف كما لو أن سلطته مطلقة يفعل ما يشاء دون أن يرجع إلى أية جهة، أو يخضع لأية مراجعة.
على عكسه تماما “بايدن” هو أحد رموز المؤسسة الأمريكية، بكل آلياتها ومصالحها وما يعتريها من شبهات فساد. رغم التناقض الظاهر بين الرئاستين فإنهما لقيا فشلا واحدا في بناء صورة أمريكية جديدة لقوة عظمى قادرة على مواجهة عواصف المتغيرات في بنية النظام الدولي والمجتمع الأمريكي نفسه. انتهج ترامب سياسة داخلية شعبوية وسياسة خارجية شبه انعزالية تحت شعار “أمريكا أولا”. ما هو داخلىي أفضى إلى رفع منسوب الاحتقان المجتمعي إلى حدود لا تحتمل. وما هو خارجي أفضى إلى تراجع نفوذ الولايات المتحدة داخل التحالف الغربي الذي بدأ في التفكك، وداخل حلف “الناتو” الذي أخذ في الانكماش بأثر دعوة ترامب الملحة إلى ما أسماه: “الدفع مقابل الأمن”. كانت جائحة “كوفيد 19” كاشفة لمستوى الكفاءة الذي انحدرت إليه إدارة ترامب حتى بدت مؤتمراته الصحفية اليومية مادة للسخرية باتساع العالم كله!
بالمقابل استهدفت إدارة “بايدن” استعادة هيبة أمريكا وأدوارها القيادية في التحالف الغربي والناتو، لكنها انزلقت بحماقات الاندفاع دون تحسب في حرب استنزاف منهكة مع الدب الروسي بأوكرانيا. فرضت عقوبات غير مسبوقة، شيطنت الرئيس “فلاديمير بوتين” وسعت لـ”إذلال روسيا” واصطيادها في المستنقع الأوكراني. كانت تلك خيارات سياسية حمقاء حذر من مغبتها وزير الخارجية الأمريكي الأشهر “هنرى كيسنجر” دون أن يتوقف أحد في إدارة بايدن ليسأل: إلى أين نحن ذاهبون؟ بالارتدادات العكسية تأكدت النتائج الكارثية للعقوبات الاقتصادية المفرطة، أخطرها الآن أن أوروبا على وشك أن تدخل إلى شتاء قارس بأثر أزمة الطاقة. بدأت الحكومات الأوروبية تضع خطط طوارئ لتخفيض الإنارة، أو قطعها لأوقات معلومة في مناطق حكومية أو مزارات سياحية وربما ميادين عامة بالعواصم الأوروبية الكبرى. هذا مجرد مثال على التذمر المتوقع فى بنية المجتمعات الأوروبية على نهج إدارة “بايدن” في الحرب الأوكرانية إلى حدود دخلت تداعياتها السلبية كل بيت. هكذا فإن “ترامب” كاد يدخل بأمريكا إلى نسخة مستجدة من “جمهوريات الموز”، ويقحمها في احترابات أهلية عرقية تمزق وحدتها، فيما بايدن يكاد يودع قوتها العظمى السابقة في أرشيف التاريخ!
كانت الانتخابات الأمريكية السابقة أقرب إلى استفتاء على ترامب من أن تكون خيارا بين رجلين وبرنامجين. بأثر الضجر من “ترامب”، سياساته ومواقفه، جرى انتخاب “بايدن”، الذي تغيب عنه أية كاريزما ويفتقد التركيز الضروري في ممارسة سلطاته، وشعبيته الآن عند أدنى مستوياتها. القوى الديمقراطية الشعبية والصحافية والبحثية التي راهنت على إزاحة “ترامب” تجد نفسها الآن في أوضاع مزعجة خشية أن يعود إلى البيت الأبيض مجددا، أو أن تخسر أمريكا الصراع الجارىي على القوة والنفوذ والمكانة في عالم يتغير بأثر تصدعها الداخلي.
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.