جلـ ... منار

بايدن وترامب.. مساجلات وصدامات كاشفة!

نشرت

في

لم يحدث أن تعرَّض رئيس أمريكي سابق لأية إجراءات خشنة مماثلة.

<strong>عبد الله السنّاوي<strong>

بدت مداهمة قصر “دونالد ترامب” في منتجع “مار لاغو” بولاية فلوريدا كمشاهد مقتطعة من أفلام المافيا، فهو متهم من مكتب التحقيقات الفيدرالي بإخفاء وإتلاف وثائق دولة على درجات مختلفة من السرية، وهو اتهام يعرض صاحبه للزج به خلف أسوار السجون.
في
المشهد الهوليوودي تفسيرات وتأويلات ذهبت باتجاهات متناقضة.
بعضها أكدت أن المداهمة والتفتيش في أنحاء المكان خضع لإجراءات أمنية وقانونية منضبطة بموافقة قاضٍ فيدرالي وفق معطيات مقنعة.

إنها إذن “دولة القانون” و”لا أحد فوقها” ــ بتعبير رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، فـ”الرئيس جو بايدن لا يتدخل في أعمال العدالة ويحترم القانون” ــ بتعبير آخر للبيت الأبيض.
وبعضها الآخر ذهبت إلى اتهام البيت الأبيض بـ”تسييس العدالة” للحيلولة دون خسارة شبه مؤكدة للحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية لمجلسي الكونغرس بالخريف المقبل وقطع الطريق على ترامب من العودة إلى البيت الأبيض إذا ما فاز بالانتخابات الرئاسية لعام (2024)، وهو احتمال غير مستبعد بالنظر إلى التراجع الفادح لشعبية بايدن في استطلاعات الرأي العام.
إنها إذن إجراءات مسيسة وحملة مطاردة لأسباب لا علاقة لها بالقانون، على النحو الذي يحدث في ديكتاتوريات العالم الثالث وجمهوريات الموز ــ كما يقول ترامب وأنصاره فى الحزب الجمهوري.
وسط فوضى التفسيرات والتأويلات المتناقضة يتبدى مستقبل الولايات المتحدة معلقا على تفاعلات صاخبة في بنية مجتمعها وتساؤلات قلقة عن المدى الذي سوف يذهب إليه انحدارها في موازين القوى والحسابات الدولية بعالم يتشكل من جديد.

يصعب تصديق أن بايدن لم يكن على علم مسبق بالمداهمة، أو أن وزير العدل لم يخطره مسبقا.
أيا كانت قوة الحجج القانونية فإن التسييس لا يمكن نفيه في واقعة المداهمة.
بنفس القدر فإن ترامب آخر من يحق له أن يتحدث عن ديكتاتوريات العالم الثالث وجمهوريات الموز، إذ أعرب أثناء ولايته أكثر من مرة بصيغ متعددة عن أمله أن يحكم بلاده على النحو الذي يجرى في العالم الثالث، أو أن يكون بوسعه تمديد ولاياته بأكثر مما يتيحه الدستور الأمريكي.
لم يعترف بهزيمته الانتخابية أمام غريمه الديمقراطي “بايدن”، استخدم كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة، القانونية وغير القانونية، لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسية، خرق أية قواعد ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، شجع أنصاره على حصار مبنى الكابيتول واقتحامه بالقوة لمنع اعتماد فوز بايدن بالرئاسة.
كانت تلك جريمة مروعة بحق أية قواعد ديمقراطية بنت صورة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كقوة عظمى توافر لها، بالإضافة إلى إمكاناتها العسكرية والاقتصادية الهائلة، نموذج ديمقراطي تعددي ملهم وقوة ناعمة نافذة يلخصه سحر هوليوود.

كل ذلك يوشك الآن أن يتبدد وسط التحولات الدولية العاصفة والعيوب الجوهرية في بنية المجتمع الأمريكي وأخطرها العنصرية المتأصلة، التي عبر “ترامب” عن توحشها إلى حد وضع البلاد كلها على حافة المواجهة والتقسيم.
أحد التفسيرات المتماسكة نسبيا لما وراء مداهمة قصر ترامب أن “الدولة العميقة»” بأجهزتها المختلفة لا تود أن تراه مرة أخرى في البيت الأبيض على ما يؤكد مع أنصاره.
فـترامب صعد إلى المقعد الرئاسي من خارج المؤسسة بخطاب شعبوي مفرط استقطب به إحباطات الأكثرية البيضاء وتحميلها كل ما هو ملون مسئوليتها.
تمرد على المؤسسة وخرق قواعدها والتزاماتها، وتصرف كما لو أن سلطته مطلقة يفعل ما يشاء دون أن يرجع إلى أية جهة، أو يخضع لأية مراجعة.

على عكسه تماما “بايدن” هو أحد رموز المؤسسة الأمريكية، بكل آلياتها ومصالحها وما يعتريها من شبهات فساد.
رغم التناقض الظاهر بين الرئاستين فإنهما لقيا فشلا واحدا في بناء صورة أمريكية جديدة لقوة عظمى قادرة على مواجهة عواصف المتغيرات في بنية النظام الدولي والمجتمع الأمريكي نفسه.
انتهج ترامب سياسة داخلية شعبوية وسياسة خارجية شبه انعزالية تحت شعار “أمريكا أولا”.
ما هو داخلىي أفضى إلى رفع منسوب الاحتقان المجتمعي إلى حدود لا تحتمل.
وما هو خارجي أفضى إلى تراجع نفوذ الولايات المتحدة داخل التحالف الغربي الذي بدأ في التفكك، وداخل حلف “الناتو” الذي أخذ في الانكماش بأثر دعوة ترامب الملحة إلى ما أسماه: “الدفع مقابل الأمن”.
كانت جائحة “كوفيد 19” كاشفة لمستوى الكفاءة الذي انحدرت إليه إدارة ترامب حتى بدت مؤتمراته الصحفية اليومية مادة للسخرية باتساع العالم كله!

بالمقابل استهدفت إدارة “بايدن” استعادة هيبة أمريكا وأدوارها القيادية في التحالف الغربي والناتو، لكنها انزلقت بحماقات الاندفاع دون تحسب في حرب استنزاف منهكة مع الدب الروسي بأوكرانيا.
فرضت عقوبات غير مسبوقة، شيطنت الرئيس “فلاديمير بوتين” وسعت لـ”إذلال روسيا” واصطيادها في المستنقع الأوكراني.
كانت تلك خيارات سياسية حمقاء حذر من مغبتها وزير الخارجية الأمريكي الأشهر “هنرى كيسنجر” دون أن يتوقف أحد في إدارة بايدن ليسأل: إلى أين نحن ذاهبون؟
بالارتدادات العكسية تأكدت النتائج الكارثية للعقوبات الاقتصادية المفرطة، أخطرها الآن أن أوروبا على وشك أن تدخل إلى شتاء قارس بأثر أزمة الطاقة.
بدأت الحكومات الأوروبية تضع خطط طوارئ لتخفيض الإنارة، أو قطعها لأوقات معلومة في مناطق حكومية أو مزارات سياحية وربما ميادين عامة بالعواصم الأوروبية الكبرى.
هذا مجرد مثال على التذمر المتوقع فى بنية المجتمعات الأوروبية على نهج إدارة “بايدن” في الحرب الأوكرانية إلى حدود دخلت تداعياتها السلبية كل بيت.
هكذا فإن “ترامب” كاد يدخل بأمريكا إلى نسخة مستجدة من “جمهوريات الموز”، ويقحمها في احترابات أهلية عرقية تمزق وحدتها، فيما بايدن يكاد يودع قوتها العظمى السابقة في أرشيف التاريخ!

كانت الانتخابات الأمريكية السابقة أقرب إلى استفتاء على ترامب من أن تكون خيارا بين رجلين وبرنامجين.
بأثر الضجر من “ترامب”، سياساته ومواقفه، جرى انتخاب “بايدن”، الذي تغيب عنه أية كاريزما ويفتقد التركيز الضروري في ممارسة سلطاته، وشعبيته الآن عند أدنى مستوياتها.
القوى الديمقراطية الشعبية والصحافية والبحثية التي راهنت على إزاحة “ترامب” تجد نفسها الآن في أوضاع مزعجة خشية أن يعود إلى البيت الأبيض مجددا، أو أن تخسر أمريكا الصراع الجارىي على القوة والنفوذ والمكانة في عالم يتغير بأثر تصدعها الداخلي.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version