لا يوجد أحد من أبناء جيلي في الحي الذي ولدت وتربيت فيه إلا ويتذكر “عمو أبو الشام”!هكذا كان يريدنا نحن الأطفال أن نناديه…
كان يحمل صينية مستطيلة ومصنوعة من الخشب، يملؤها قضامة (حمص محمص منه الحلو ومنه المالح) … كان صوته يسبقه إلى أزقة حينا، حيث كانت أرجلنا تسبقنا إليه، ونحن نقبض بإحكام على بضعة قروش حصلنا عليها بشق الأنفس!
كان أبو الشام يحمل في خرجه أقماعا مصنوعة من ورق الجرائد على شكل مخروط، وكانت ذات حجمين.الحجم الكبير يملؤه قضامة بقيمة عشرة قروش (فرنكين)، والحجم الصغير بقيمة خمسة قروش (فرنك واحد)…وما يكاد يناول الطفل حصته في أحد كفيه حتى يسأله أن يفتح الكف الآخر، فيرمي له ببضع حبات قضامة زيادة وهو يدندن:”وهي بحبوحة عمو أبو الشام”!
……….
الأمر الذي مازال يحيرني حتى تاريخ اليوم هو أننا – نحن الأطفال – كنا نهتم بالبحبوحة أكثر مما نهتم بمحتويات حصتنا في القمع الورقي..ربما لأنه لا شيء أعذب مذاقا من العسل إلا الخل بالمجان!و
كان يتخيل لنا أن البحبوحة مجانية، فنتسارع لعد حباتها لنرى من حصل على الأكثر، ولم يزد هذا الأكثر يوما عن ثلاث حبات حمص، فلقد كانت يد “عمو أبو الشام” أدق من ميزان الذهب! لكنها كانت تفعل فعل السحر لدى من ظفر فيها، إذ يشعر أن الكون قد خصه اليوم دون غيره بزيادة تساعده على أن ينفش ريشه حتى نهاية اليوم!
والأمر الذي يحيرني أكثر لماذا أصبحت “بحبوحة عمو أبو الشام” منذ حينها وحتى تاريخ اليوم بالنسبة لي فلسفة وطريقة حياة!
……….
كل شيء في حياتي هو بحبوحة أبو الشام…ابتداء من الشمس التي تعود كل فجر لتشرق في عالمي وانتهاء بالكتاب الذي أرميه من يدي عندما يغلبني النعاس، ومرورًا بكل التفاصيل اليومية حلوها ومرها!
كل شيء هو بحبوحة سقطت في كفي دون أن أتوقعها، وبها أنا مدينة للكون!
عشت حياتي كلها لم أتوقع الكثير ولم أضمن حتى القليل.أحاول أن أفعل الأفضل وأحضر نفسي لأتقبل وأتفاعل مع الأسوأ،ولم يأت يوما هذا الأسوأ … لماذا لم يأت؟لأنني في أفضل الأحوال لا اومن بوجوده، وفي أسوئها اومن بأنني مجهزة روحانيا وعقليا لتقبّّله!
……….
يقول فلان من الناس: لقد تعبت جدا مقابل أن أحصل على هذا أو ذاك، وهو بذلك يقصد ماناله من قضامه في قمعه الورقي مقابل القروش التي دفعها…أما أنا ورغم أنني بذلت جهودا جبارة مقابل كل حبة قضامه وقعت في كفي، فإنني مازلت أعتبرها بحبوحة منّ بها الكون علي، وأنا مدينة للكون!
……….
من فينا – وبغض النظر عن أعمارنا – يضمن أن يعيش يوما آخر؟ لا أحد! لذلك، كل يوم وبكل تفاصيله هو بحبوحة أبو الشام، ويجب أن نتلقف تلك البحبوحة بأكف مفتوحة وقلوب عامرة بالشكر والامتنان!
……….
لا شيء في الحياة يأتيني كأمر أتوقعه وأسلم بمجيئه…طالما هناك محرومون من الماء، فقطرة الماء التي تنزل من الحنفية في مطبخي هي بحبوحة خصني الكون بها…وطالما هناك بشر يصارعون من أجل قوت يومهم،فحزمة البصل في ثلاجتي هي بحبوحة تكرّم علي بها القدر، بغض النظر عن القروش التي جنيتها بتعبي ودفعتها مقابل تلك الحزمة!
كل بحبوحة تدهشني…وكل حبة قضامة تبهرني…وأمام الدهشة والانبهار لا أملك إلا أن أشكر وأمتنّ…. لم أرقص يوما غبطة وامتنانا أمام حبة قضامة إلا وصارت الحبة قبة…سر الوفرة أن تقدّر مالديك، فما يحمله الغد مرهون وصوله بما تشعر به حيال ماقدمه الأمس واليوم…
الحياة مواقف، وأجملها على الإطلاق أن تكون ممتنًا للحياة نفسها، فكل يوم تمنحك إياه هو بحبوحة مجانية، وعليك أن تتلقفها بفرح طفولي!
……….
كانوا يعلموننا في طفولتنا أنه وفي حال كنا مدعوين إلى مائدة أحدهم، أن لا نبدي غبطة أمام المائدة، كي لا يظن الآخرون أننا محرومون وفجعانون..من يومها قتلوا قدرتنا على الامتنان والتعبير!
أما أنا فلم أجلس يوما على مائدة مضيف إلا وانتشيت فرحًا، وعبرت عن دهشتي أمام أدق تفاصيلها إلى حد يخيل عنده للآخرين أنني لم أذق لقمة منذ شهور،وهذا الموقف هو بالنسبة لي طريقة حياة!
لا أحد ملزم أن يستضيفني، وكل دعوة للقمة هي تواصل إنساني يعكس كرم وأخلاق المضيف!
……….
الحياة تبحبحك فقط عندما تشكر وتمتن، وماعدا ذلك فهو سرقة بغض النظر عما دفعته مقابل ماحصلت عليه،إذ لا يوجد ثمن يقابل بحبوحة أبو الشام،سوى اندهاشك وانبهارك وصلوات الامتنان التي تقدمها!….لذلك كان عيد الشكر، وسيبقى إلى الأبد، أجمل أعياديوأغزرها عطاءًا ودفقًا.
……….
كل عيد شكر وأنت مسربل بالشكر والامتنان، حتى ولو لثقب يدخل منه النور في جدران سجنك!
فبالامتنان وحده تتوسع الثقوب، ومن خلالها يزداد الدفق الكوني ضخا وخصوبة!
……….
أقيموا عيدًا للشكر، وسيكون كل يوم في حياتكم عيدا، كما هو في حياتي!