كما سارت عليه السُنَن لا بدّ في يوم افتتاحي كهذا، أن نمعن في المقدمات و التحيات و المصافحات … افتراضيا طبعا حتى لا يتم ضبطنا بمخالفة البروتوكول الصحي … نحيّي و نرحّب و نتمنى الأفضل لكل من فتح لنا قلبه و عينيه و وقته … و أيضا ذاكرته من أولئك الأوفياء الذين رافقونا بدفئهم و اهتمامهم من قرن إلى قرن …
هذا اليوم هو يوم انطلاقنا في تجربة جديدة أطنب في تفصيلها الرفاق أحسن مني … و أكيد أن فريقنا يفرغ ما في جعبته لنهار واحد، لأنها قد تكون آخر مرة و أول مرة نحكي فيها عن أنفسنا و عن جريدتنا … أما باقي الأيام، فلن يكون المجال إلا للاجتهاد في ملاحقة الأحداث الوطنية و العربية و الدولية، و مسابقتها في أحيان، و السعي الدائم بين صفا الخبر و مروة التعليق …
ولادتنا تجيء في وقت صعب، و لعلّني لا أقلب الأدوار لو قلت إنها جاءت في وقتها … نعم … فالشدة التي نجتازها جميعا تحتاج إلى حشد 12 مليون قلم، و 12 مليون حنجرة، و 12 مليون فكر، و 12 مليون ساعد، و 12 مليون إرادة خير … لكي لا تكبو بلاد لا مورد لها سوى هذا الشعب الذي ـ بتعداده المعروف ـ قد لا يملأ مدينة صينية متوسطة …
بلد قليل العدد يمكن، ضيق المساحة نسبيا ممكن، عديم الثروات قالوا … و لكننا ننظر إليه كما ينظر المستكشفون إلى كتلة ضئيلة من جبل جليد عملاق … وحدهم المصابون بعمى الألوان و المسافات يقفون عند ويل للمصلين أو ويل للتونسيين … و لكن حكماء الأعماق و قرّاء التاريخ، يعلمون حق العلم أن هنا موطن شعب عظيم و دولة أعظم … ليس مطلوبا منك أن تكون من هواة الآثار أو الباكين على ذكرى حبيب و منزل، حتى تستعيد الحضارات التي أنشأها التونسي(همجيّ اليوم)، و ظلّلت تحت فيئها أقواما في الاتجاهات الأربعة … و ليس مطلوبا أن تكون من مرضى الوطنية العمياء التي تجمّل الجميل من تاريخنا و القبيح على حد سواء … و لكن يكفي أن تنجم بين جدراننا محنة أو يستفزّنا خطر، حتى يخرج من القمقم مارد نندهش نحن أنفسنا من جبروته …
و الأمثال كثيرة قريبة … منها تلك الأيام العزاز التي عشناها في الشهرين الأوّلين من 2011 … لم تكن هناك حكومات و لا مؤسسات قائمة و لا هذه الشخصيات التي تتصدّر من الأزل إلى الأبد عناوين أنباء الثامنة … كل ذلك إمّا هرب و إمّا اختبأ في البيوت و إمّا كمن في المنافي الذهبية … و لم يبق في هذا المدى القاحل سوى متساكنين نعرف منهم القلّة و البقية بلا أسماء … هم الذين اشتغلوا حرسا و عسسا و منظفين و سوّاقا و مزوّدين و ممرضين و معلّمين و قائمين على كل المرافق دون انتظار تهديدات مدير أو زيارة وزير … أما التضامن ـ الطوعي حقا هذه المرة ـ فقد فاقت حدوده الحدود، مع الجار القريب أو العابر البعيد …
و قد تكررت الأمثلة و الملاحم … في تقاسم المؤن بين العائلات، في نجدة مشردي بلد مجاور، في جمعيات مخيم الشوشة، في ملاحقة المنحرفين، في مواجهة الفارّين من السجن، و بعد ذلك في إلياذة بن قردان 2016 … و كم أحسد بعض ساستنا على جرأتهم في توصيف كل هذا برسوخ الإدارة و قوة الدولة … و هم يريدون إقناعنا بأن مناصبهم هي الطبيب المداوي، و أن صراعهم على الكراسي لوجه الله و الوطن و خدمتنا … بينما الحقيقة أن الدولة و الوطن و الخدمات، و قبل ذلك إعاشة غوغاء السلطة، هي نحن و أنتم و أنتنّ و جملة من يعمّرون أرضنا الطيبة … فقط لا غير …
و فقط أيضا … أن يجد أهلنا من يحترمهم و يحترم ذكاءهم و يَحْذر غضب الحليم الكامن فيهم … و هذا ما سنسعى إليه من موقعنا الصغير البسيط، و أيدينا على قلوبنا …