جلـ ... منار

بدويّ على ضفاف السين

نشرت

في

باريس باختصار، نداء لكل فقراء و بؤساء العالم أن يظلوا حيث هم … فهي من القوة و الجمال و المناعة بحيث تشعر و كأن كل بلاطة في أرصفتها و كل زجاجة عطر في واجهاتها و كل هديل حمامة في غاباتها و كل سيف في قبضات تماثيلها، تدفعك إلى الدهشة ثم الحسد، ثم الغيظ ثم الرحيل.

<strong>محمد الماغوط<strong>

كل شيء فيها: السياسة، الدين، الفن، الاقتصاد يبدو حرّا و مرنا كراقص الباليه و متماسكا كحلقات السلاسل حول أقدام الأسرى. و في لحظات الحصار الخانقة أمام مواكب الجمال اللامبالية ثمة ما يدفع الغريب فيها و يستفزه استفزازا كي يتحرش بالمارة و يعترض طريقهم مثل “الإنسان الصرصار” في رواية دستويفسكي الشهيرة للتخلص من وحدته و يلفت الانتباه إليه … و كثير ما كنت أتخيّل نفسي و أنا أعترض طوابير “الليدو” أو مواكب “الشانزيليزيه” و أصرخ: و لكن أنا من جبهة الرفض، من دول المساندة و قضيتنا عادلة و إسرائيل مخلب قط للاستعمار. و لكن أي رفض و أية مساندة و أية مواجهة يمكن أن تجديك أو تلفت الانتباه إليك و أنت تتزحلق طول إقامتك في شوارعها كما يتزحلق الصرصور في حوض الحمّام؟

و لكن بعد يومين أو ثلاثة من إقامتك فيها، ينتابك إحساس من نوع آخر … إحساس إنسان الكهوف، عندما يخرج إلى الغابة عند الفجر حيث يكتشف أن كل شيء أخضر و مضيء، , ان كل ما حوله يوحي بالدعة و الطمأنينة و يدعو للمشاركة في كل شيء و دخول كل الأبواب حتى أبواب الإليزيه.

برج إيفل يدعو و يقول له تفضل و خذ لك صورة ذكرى.

نوتردام تدعوه و تقل تفضل خذ لك ركعة أو قداسا.

و الجمعية الوطنية تدعوه و تقول له تفضل و خذ لك درسا في الديمقراطية.

و الحي اللاتيني يدعوه و يقول له تفضل و خذ لك لوحة أو غانية.

و الأحياء الشرقية تدعوه و تقول له تفضل و خذ لك مناقشة أو طعنة سكين.

و الباستيل يدعوه و يقول له تفضل و خذ لك “فلقة” و تعلم كيف تكون الثورات.

نعم … الباستيل الذي كان رمزا للظلم و الاستفزاز كوال قرون، أصبح مجرد نصب و ساحة يتنزه حولها الطلاب و العشاق و العمال و الكتاب و الشعراء و الثوريون و الفوضويون من كل أنحاء العالم. و يدوسون على أنقاض الظلم و الإرهاب مثلما يدوس العصفور على قشور البيضة التي خرج منها. و بالمناسبة، هذا السجن الذي أدى سقوطه في يوم من الأيام في تغيير وجه أوروبا و العالم، عندما اقتحمه الثوار … لم يجدوا فيه سوى ثلاثة سجناء فقط بينما أصغر مسؤول في أي بلد من العالم الثالث يوجد في ثلاجة بيته أو خزانة ثيابه عشرة سجناء على الأقل.

و لكنك من جهة أخرى لا تستطيع إلا أن تصرخ: ما هذا النابليون؟لم يترك لوحة أو تمثالا أو خابية أو منفضة سجائر أو علبة عطور في كل أوروبا و البلدان الأخرى التي غزاها إلاّ و شحنها و كوّمها في بلاده. حتى أنا الذي يتجول في الجناح المصري بمتحف اللوفر بردهاته و صالاته المزدحمة بالتماثيل و النقوش و العقود و الأطواق و اللآلئ و الأقراط و الصحون و الملاعق و الممالح الفرعونية، يخيل إليه أن نابليون نهب كل تاريخ مصر و لم يترك لها سوى أنور السادات … بل أن أي عربي ليشعر بالغيظ و المرارة و هو يرى الغزاة الفاتحين كيف نهوا كل تاريخنا و كوّموه في بلادهم، و كيف نحن الآن ننهب حاضرنا و نكوّمه أيضا في بلادهم.

و فجأة شعرت بالخوف و أنا أجرجر قدمي ذات مساء في ردهات “متحف الإنسان” حيث ترى بالصور و التواريخ و النماذج تطور الإنسان و التبدل الذي طرأ على جمجمته و أسنانه و أطرافه و مخالبه منذ بدء التاريخ حتى الآن. كل نموذج معروض، بأسنانه المكشرة أو رأسه الصلعاء في واجهة زجاجية أمام الزوار و طلاب المدارس و الجامعات.

و قد لاحظت فور وصولي أن بعض عمال المتحف قد أخذوا يعدون واجهة زجاجية جديدة لجناح جديد. فقلت في نفسي و أنا أتراجع بحثا عن باب الخروج: ما الذي يمنع من أن يأتي أحد العلماء أو البروفيسورات و يلتقطني من ياقتي و يضعني في هذه الواجهة ثم يقلبني بالقفازات و الملاقط أمام الزوار و طلاب المدارس و الجامعات و هو يقول لهم: هذا الشيء الذي ترونه و الذي يشبه الإنسان، كان لأجيال طويلة يظن أنه من فصيلة الثدييات و الفقريات. و لكن تبين لنا، نحن العلماء، بعد المراقبة المستمرة و الدراسة التقنية أنه ينتمي إلى فصيلة الزواحف باعتبار أن الإنسان العربي منذ فترات طويلة و هو يزحف على ركبتيه و يديه لينال لقمته و حريته.

و في الحال مزقت القائمة التي تتضمن أسماء الأماكن التي لم أزرها بع. و قلت “بلا لوفر بلا سوربون، و رأسا إلى الفندق، إلى المطار، إلى الخطابات”.

*   *   *

و لكن و أنا في طريقي إلى المطار ما غن رايت أول شرطي مرور حتى أوقفت السيارة و طلبت من السائق أن ينتظرني قليلا إذ كنت قد علمت أن الشرطي في تلك البلاد كلما اقترب منه أحد المارة و سأله سؤالا يرفع يده و يؤدي له التحية ثم يجيبه على سؤاله. و لذلك تقدمت منه و سألته: أين طريق المطار؟ فرفع يده و أدى لي التحية و أجابني بكل رحابة صدر. ثم ابتعدت عنه قليلا و عدت إليه مرة أخرى و سألته: كم الساعة؟ فرفع يده و أدى لي التحية و أجابني. ثم أخذت أودعه و أعود إليه و أسأله تارة كم عنده من أولاد؟ و كم راتبه؟ و هو يجيبني بالتحية نفسها و بالترحيب نفسه حتى شعرت بأنني اكتفيت. فأسرعت إلى السائق راضيا معتذرا فقال: ما قصتك أنت و هذا الشرطي، لقد أرهقته؟ فقلت: القصة و ما فيها أن الشرطي هنا كما ترى عندما تسأله سؤالا يرفع يده و يؤدي لك التحية ثم يجيبك عن سؤالك. أما عندنا في بلاد العرب فالشرطي لا يرفع يده إلا للضرب. و لذلك، فعندي جوع تاريخي للاحترام و الشعور بالإنسانية و لذلك أخذت معي “زوّادة” من هذه الأشياء لا أكثر و لا أقلّ.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version