نحتار حقا في توصيف ما جرى السنة الأخيرة في منطقتيْ شمال فلسطين وجنوب لبنان… ومبعث الحيرة هذا الدفق اللامتناهي من الدماء والدموع والشجن الذي يملؤنا ولا يترك وقتا ولا مجالا إلا للانحياز للمقتول ضد القاتل، وللمغتصب ضد الغاصب، وللمنزل الطائر شظايا ضد الطائرة الحاملة دمارا وعدوانا.
الدافع الثاني للحيرة هو ما يمكن تسميته بجلال الموت… نعم، ليس هناك من دليل أعلى على صدق أحد وبطولته وصفاء نواياه من أنه يقدم نفسه فداء لقضية ما… لذلك رحنا نطلق صفة الشهادة على من نتفق معه وهو حي، كما نطلقها على من نختلف معه حتى كليا عندما كان من هذه الدنيا… لا، الآن وبعد أن أهدى روحه على ميدان المعركة، فلا تجوز عليه سوى الرحمة والإكبار والتعميد بصفة الشهيد البار… المشكلة أن هذا المنطق يصلح في آداب التعامل مع الموت، في التنفيس عن مشاعر حنق تجاه عدو رئيسي ووجوديّ مكين… يصلح أيضا في رومانسيات الحروب وفرسانها الذين يستبسلون في معركة ويتحوّلون إلى أيقونات أمام عيون الصغار ودروس التربية الوطنية ومعاني الوطن… والعَبرة التي نشرق بها ونحن ننشد لحن الوفاء له، كلما رفرف علم وخفقت جرّاءه قلوب وتنادت أفئدة…
وتكبر الحيرة حين تختلط مع الرحيق المقدس أوشابٌ وأتربة وتساؤلات… نعم … للأسف لا تخلو كأسنا التي نتجرعها من بعض العلامات التي تجعلنا نتردد والزجاج الناعم يقترب من شفاهنا… جاء التردد من استرجاع بعض الصور والذكريات القريبة والبعيدة التي تقول لنا حذار… انتظروا… فاللون الأبيض النقي هو لون السكّر والملح في آن واحد، ورعود السماء تأتي بالمطر الطيّب والصاعقة القاتلة لنفس المُزارع المنتظر تحت شجرة… والبحار الطامية هي خير وسمك وبركة للصياد وهي أيضا الهلاك والغرق… تتشابه الأشكال بين مواد عدة وظواهر، ولكن هل تطابقت دوما الظواهر والجواهر؟
وتتداعى التمثّلات… ولكن على الأرض ماذا نقول في من قتلوا أنفسهم في عمليات داعش، وقتلوا معها تلاميذ مدرسة أو متزاحمين في سوق أو مصلين في جامع؟ … وماذا نقول في سقوط إرهابي صريعا ذات مواجهة مع الشرطة ويداه ملطختان بدم شكري بالعيد؟… وماذا نقول في المئات ممن غُسلت أدمغتهم فصاروا يعتبروننا كافة دار حرب وأقسموا على تصفيتنا فرادى وجماعات وهم معنا بالحزام الناسف؟ … للعلم فلهؤلاء مفتون من فئة خميس الماجري وأبي عياض والمرحوم حسن الغضباني، يسبغون عليهم نعت الشهيد بابتسامة هانئة وقلب مستريح… بل وينضمّ إليهم مذيع تافه لا همّ له سوى الحفاظ على كرسيّ أمام الكاميرا وريع سمين تحت أرجل الكرسي …
نهتف حتما للأبطال الذين استشهدوا، مع حسرة على فقدانهم وأمنية بأن يقتلوا العدوّ لا أن يسقطوا صرعى… الشهادة لهم لكن لنا الهزيمة في آخر المطاف… وهزائم الحروب ليست إنشاء ولا شعرا ولا لعبا بالمصطلحات… هي حصائل باردة لواحد مع واحد يساوي اثنين… من الذي خرج من الميدان (ولو شهيدا) ومن الذي بقي حيّا يصول ويجول؟… وهنا لا ينفع التأبين ولا التعظيم ولا الخلود ولا قناة الجزيرة… منطق الحرب أن تعيش لا أن تموت، وهذه أهم توصية تصدر عادة عن القادة وهم يوجهون جنودهم في مهمة… وحتى إذا شاء القدر وترك الواحد حياته على ساح الشرف، فيكون في المقابل أوقع بأعداد وافرة من صفوف العدوّ قبل أن يبذل الدم والروح…
ولكننا في هذه الموقعة إلى أين وصلنا وكم خسرنا من أرواح وكم خسر العدوّ؟ وكم كانت كلفة 7 أكتوبر 2023 وماذا كسبنا خلالها وأية رقعة حرّرنا؟ … دائما بمنطق الحروب القاسي، هذا ما حصل… عشرات الآلاف من مدنيي غزة والضفة وجنوبي لبنان، أعداد من “العسكريين” شبه العزّل تختلف الأرقام في تقديرها بين المتحاربين، ولكنها في النهاية كبيرة وموجعة… ويكفي أنها حرمت المقاومة من أهم قادتها وحتى التالين في الأهمية… دون الحديث عن دمار شامل فعلا لمدن وقرى وبلدات ومبان ومرافق تعجز قوى عظمى عن إعادة إعمارها بسرعة لو تمّت على أراضيها إثر كارثة طبيعية… فكيف بنا ولا زلزال سُجّل في غزة أو إعصار ضرب جنوب لبنان…
الزلزال الوحيد الذي ضرب أهالينا هناك كان قرارا بحرب غير متكافئة، سيئة التوقيت والحساب… بل ويجعلك تتساءل بعد هذا العبث وذلك الدمار: لفائدة من كل هذا؟ ولماذا انتقلت القضية من هدف تحرير الأرض إلى المناشدة بوقف إطلاق النار؟ ومن يعوّض لمن تيتّم أو ترمّل أو ثكل؟ ومن يؤوي الذين تشرّدوا؟ أم نكتفي بآية “لا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله…”، وبمقولة ذلك القيادي في حماس عن مدى انشغاله بملايين المدنيين المعرّضين للقصف والموت: أولئك مسؤولية المجتمع الدولي؟!!!