ما حصل أمس بضاحية المنار يعتبر سابقة خطرة بإجماع من لهم علاقة بمهنتنا … و ما مورس من استنجاد بالقوة العامة لفرض مسؤول على مؤسسة، لهو إنذار بخراب هذه البلاد أكثر مما خربت … و تتوجع أكثر، حين تعرف أن المؤسسة المقصودة هي وسيلة إعلام، و أنها مزوّد الخبر الأوّل لبقية أجهزتنا، و أن الخبر الذي طاف عشية أمس … كان خبر ذبحها، أو محاولة ذبحها …
منذ فتحنا العيون على هذه الدنيا، كانت وكالة “تونس إفريقيا للأنباء” تعمل هادئة من الخارج، متلاطمة من الداخل، حاملة على كتفيها مهمة توفير المادة الإخبارية و كثير من الصور و الشروح و الوثائق المختلفة لصحفنا و إذاعاتنا و تلفزاتنا … جالبة إلينا ما نحتاجه مما تذيعه وكالات الأنباء العالمية و خاصة الخمس التي أذكر أنها مشتركة فيها (فرانس بريس، أسوشايتد، رويتر، تاس و وكالة أنباء الشرق الأوسط) … مع تعاون مسترسل مع وكالات أنباء أخرى حسب المستجدات و مواقعها …
إذن كانت الوكالة قليلة الضجيج كثيرة العمل، تنقل الأحداث دون أن يحدث بها شيء …و يتعاقب على رأسها المديرون في سلاسة و نقل مهام و توديع و ترحاب كلها تتسم بالتحضر و الاحترام و استمرارية المرفق الإعلامي العمومي … و قد يناكف أحد بأن صحافة العهد السابق كان صحافة حجب للمعلومة و أداة دعاية و توظيف حزبي … و جوابي أن في ذلك تعميما إجراميّا، و أن كل نظام يسعى نفس السعي بما في ذلك النظام الحالي المتدثّر (و المتعلل و المستقوي) بالثورة و أحكام الصندوق و الانتقال الديمقراطي إلخ إلخ إلخ …
تحدثت عن التداول على المسؤوليات في “التاب” و في غيرها … و كانت إدارتنا التونسية العريقة تعين مسؤولين مكان آخرين، و غالبا ما يتم ذلك لسبب وجيه ما … و كل من يمسك سلطة تعيين و إزاحة، مطالب عامة بتبرير ذلك العيين و تلك الإزاحة … و لكننا في هذه الحالة، لم نفهم لماذا أعفيت المديرة العامة السابقة من منصبها مع أن كفاءتها في صحافة الوكالات خاصة، لا شك فيها … كما أن فترة عملها لم تتجاوز العشرة أشهر، فهل كان تقويم أدائها سلبيا إلى هذا الحد؟
الإدارة و الدولة كانتا في معظم الأحيان تتروّيان في قرارات كهذه، و يحدث في أحيان أخرى أن تتعسفا و تستعملا ما يسمى باطلا بالسلطة التقديرية و هي استبدادية بالأساس و كم وقعت في ذلك من معارك … و في مجال الإعلام لم تخل فترة من تمرد الصحفيين الأحرار على السلطة مهما كان بطشها … ففضلا عن صمود عدة منابر و تشبثها باستقلاليتها و دفعها ثمن ذلك، كانت نقابة الإذاعة و التلفزة في صدارة المواجهين و المضروبين أيام جانفي 78 … أما نقابة الصحفيين فقد صمدت و قاتلت نظام نوفمبر، و حصل ضدها انقلاب من عناصر محسوبة على الإعلام و موالية تمام الولاء للاستبداد … و من أهمّ المنقلبين الانقلابيين كان المدير الحالي الذي تريد سلطة هذا الزمن فرضه على وكالة “وات” !
كفانا إذن ضحكا على الذقون و شتما لذكاء الناس و ذاكرتهم … فاغتصاب وكالة أنبائنا الوطنية يوم أمس هو أقرب إلى اغتصاب ولاية سليانة منذ ثماني سنوات … و فرض أحد الولاة الموالين و لو بالرشّ المستعمل في بنادق الصيد … و لكن، على عكس ما فعله أهل المدينة الصامدة حين هجروا ديارهم و شوارعهم تاركينها قفراء لابن أخت الجبالي، لن نترك مواقعنا هذه المرة …
و حتى إن أخرجونا بالقوة الغاشمة كما قال أحدهم، فسنعود يوما، سنعود غزاة لهذا البلد … بتعبير شاعرنا الكبير لروحه السلام.