جور نار

بعض التأمّلات قد تُفيدُ أبناءنا في توجيههم الجامعي

نشرت

في

ليست هذه نصائح ذات طابع عملي أو تقني تؤطّر عملية الاختيار في التوجيه الجامعي خلال الفترة الممتدّة من 26 إلى غاية 30 جويلية (والتي سنخصّص لها ورقة لاحقة عندما يحين موعد تعمير بطاقات الاختيارات)

<strong>منصف الخميري<strong>

إذن ليست نصائح، إنما هي بعض الأفكار التي رسخت لديّ وأنا أتحدّث بشأن مستقبل المحرزين على الباكالوريا هذه السنة، مع أصدقاء جامعيين ومستشارين ومشرفين على معالجة اختيارات الطلبة الجدد وإعلاميين… والتي رأيتُ فيها بعض ما قد يُساعد التلاميذ المترشحين للتوجيه الجامعي وعائلاتهم على تخيّر أفضل المسالك، في ظل واقع يزداد تعقيدا يوما بعد يوم، وتختلط فيه السّبل وتضمحلّ ضمنه صور النجاح القديمة التي كانت مسطّرة بوضوح وعناية، وتستمر دون تغييرات كبرى لعهود طويلة… وكأن العالم يمرّ من مناخ الثبات النسبي إلى مربّع التحوّل المفاجئ والسريع.  

الفكرة الأولى :

إن التعيين الجامعي الذي سيتحصّل عليه الطالب الجديد يوم 09 أوت ليس إلا نقطة انطلاق أوّلية نحو آفاق جديدة ستُتاح خلالها فرص ومُمكنات متعددة أخرى، وبالتالي، فإن المسار الجامعي الواحد في البداية سيُصبح مسارات متعدّدة أثناء الدّراسة وبعد التخرّج. فلا يجب أن ينزعج التلميذ الناجح الجديد في الباكالوريا من البدايات مهما بدت متضائلة أو واقعة في أسفل سلّم ما يطمح إليه. فكثيرات هن وكثيرون هم من درسوا ضمن شبكة التعليم العالي العمومي في مؤسسات لا يكاد يذكرها أحد، ثم وجدوا أنفسهم بعد سنوات قليلة إطارات مرموقة في شركات مرموقة يُنافسون مترشحين من كبرى الجامعات العالمية. وتعود هذه النجاحات المسجّلة في مسارات “عادية” إلى كمّ المثابرة وقوة الإرادة وروح التصميم التي تحلّى بها هؤلاء، من أجل تدعيم “حفنة التكوين” التي أحرزوها داخل أسوار الجامعة بأكوام من المعارف التي راحوا يبحثون عنها بكثير من العناء في بيادر المكتبات والمنصّات الكونية.

الفكرة الثانية :

أيها الطالب الجديد، إن مصيرك الدراسي والمهني بيدك وليس بيد الأساتذة الجامعيين الذين ستدرس على ألسنتهم وأوراقهم العجولة. وعليه، تهيّأ من الآن للتعويل على نفسك في تصيّد فرص المُراكمة والتحصيل، وجميع مفاتيح العلم والمعرفة ملقاة بصفة مجانية على قارعة الهواتف والحواسيب. كن مستعدّا للقطع نهائيا مع عقلية التعليم الثانوي والدروس النظامية التي يغلب عليها التلقين و”الشحن المركّز” من أجل النجاح في امتحان الباكالوريا، وكن أستاذ نفسك مستعينا بمستودعات تعليم اللغة وفيديوهات أرقى المحاضرات (المقدّرة قيمتها بآلاف الدولارات لو كان حضورها بمقابل) التي يُلقيها كبار الفلاسفة والمفكرين والفيزيائيين وعلماء الاجتماع والأطباء الخ… من جنس إدغار موران وهوبير ريفس ويورغان هابرماس وآلان توران وستيف جوبز  وألبير باندورا…

الفكرة الثالثة :

مع اتساع رقعة الثورة الرقمية وارتفاع مستوى الموجات التسونامية إثر حُلول مستحدثات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والتحليل الضخم للبيانات، أصبح من العبث الحديث عن مهن معروفة ستظل كما هي اليوم في المستقبل، أو عن تعليم عال يُهيّئ روّاده للاشتغال في مهن معلومة من الآن. وذلك، لأن المستقبل غير البعيد سيشهد ظهور مهن جديدة تخترق مجالات كثيرة ومتنوعة، مثل تطوير وإدارة الطاقة المتجددة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيا الروبوتات الجراحية، وتكنولوجيا النانو، وغيرها من المجالات المبتكرة. ويترتّب عن هذا الوضع الجديد التركيز على التكوين الأساسي في كل ما له علاقة بجوهر هذه التحولات العميقة المتسارعة، بصرف النظر عن المجال الدقيق الذي سيحتضنك للعمل فيه بعد التخرّج. فكلّما كان “الذهن” مُشيّدا بشكل علمي سليم على معنى القدرة على تحليل الأفكار والمعطيات والبرهنة والاستنتاج والمنهجية والدقة والروح النقدية … كان المتخرج قادرا على ولوج أي مجال مستجد مقابل بعض الدورات التدريبية السريعة وبعض التحيينات لمعارف حاصلة من قبل.

الفكرة الرابعة :

في نفس السياق تقريبا، نقول إن المجهود الذاتي مطلوب جدا وبشكل يفوق بكثير ما بذله التلميذ من جهد للحصول على الباكالوريا، وذلك في مستويين اثنين على الأقل :

  • الاطلاع على أدق التفاصيل المتصلة بملامح عروض التكوين في التعليم العالي وآفاقها العلمية والمهنية وضوارب المواد فيها والقواسم المشتركة مع شعب أخرى في تونس والخارج (الفرق بين شعبة أجهزة جراحة العظام، وأدواتية قاعة العمليات الجراحية على سبيل المثال، والفرق بين الصحافة والاتصال، والاختلاف بين المرحلة التحضيرية العادية والمرحلة التحضيرية المندمجة، وبين السياحة والفندقة الخ…). لذلك نقول دائما إن عملية الاختيار الناجح تستدعي اهتماما قويا يمتد في الزمن وتدقيقا مُضنيا، غالبا ما يُثمر اختيارات ناضجة ومُجزية.
  • الجامعة لا تكوّن تماما بل تؤطّر التكوين وتوجّهه وتؤسس لمنهجية البحث وتفتح آفاقا للمتكوّنين وتُنير سبيلهم في كيفية تمتين تكوينهم القاعدي … لذلك يقول بعض الجامعيين المطلعين جيدا على ما نُدرّسه مقارنة بما يُدرّس في الجامعات العالمية، إن الجامعات التونسية تعطي ما يعادل نصف ما تعطيه الجامعات الأخرى في نفس الاختصاص المعني وفي إطار الوحدات التي تدرس داخل ذلك الاختصاص…بما يعني أن المضامين والمهارات الفالتة والتي يتعين تداركها كبيرة جدا، يما يفرض على الطالب التونسي أن يدعم تكوينه بصورة ذاتية من خلال عمليات الإشهاد (المُكلفة ماديا أحيانا) ودراسة الوحدات المجانية المفتوحة على شبكة الويب والمُتوّجة بشهائد رسمية من الجامعات العالمية التي تُسديها، واستغلال المراكز الثقافية الأجنبية ببلادنا، وما توفره المكتبات المختلفة من مصادر ومراجع ذات قيمة نادرة. عليكم فقط أن تتصوّروا في هذا الخصوص دورة تكوينية إشهادية مجانية بجامعة هارفارد الأمريكية في اختصاصات ثمينة تفتح على التشغيل في أكبر الشركات والمجمّعات العالمية !!!

الفكرة الخامسة :

التكوين الخصوصي الأساسي مهمّ جدا وحاسم أحيانا ولكن هذه الحقيقة بحاجة إلى كثير من التنسيب (مثلا المستوى الجيد في الرياضيات والفيزياء بالنسبة إلى تلميذ الرياضيات، أو في الفيزياء وعلوم الحياة والأرض بالنسبة إلى تلميذ العلوم التجريبية، أو في الاقتصاد والتصرف بالنسبة إلى تلميذ الاقتصاد…) لأنه مهما كان مستوى اقتدار الطلبة الجدد في المجالات الخصوصية قويا وعتيدا فسيكتشفون عندما يبدؤون التعامل مع مواقع أو منصّات متخصصة أو جامعات أو مراكز بحث أجنبية، أن “وحيد اللغة” و “المتنصّل” من سعة الاطلاع على ما يجري في العالم وما يحدث من تطورات واكتشافات (يتعين عليه التعبير عنها في لغة سليمة تشد اهتمام سامعيها) لا مكان لهما في اقتصاد المعرفة الذي سيسود العالم مستقبلا.

الفكرة السادسة :

منظومة التعليم العالي في تونس لا يمكن اختزالُها في أربعة أو خمسة مسالك كبرى (الطب والاختصاصات شبه الطبية والأقسام التحضيرية للدراسات الهندسية واللغات وبعض المؤسسات المتخصصة في العلوم الاقتصادية وعلوم التصرف…) … وبالتالي على المترشح للتوجيه الجامعي أن يأخذ وقته كاملا للبحث عن مسالك جامعية قد تكون غير معروفة ولا يتداولها الناس والإعلام بشكل يومي، ولكنها تظل تخصصات ممكنة يشرف عليها جامعيون متمرّسون وتُفضي إلى آفاق مرموقة هي الأخرى. فتصميم المنتوج على سبيل المثال والدراسات القانونية والتصرف الإلكتروني في المعلومات والتربية المختصة وتكنولوجيا الإعلامية في المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية والبيوتكنولوجيا والإلكترونيك وعلوم الإعلامية في كليات العلوم التقليدية والصناعات الغذائية والصحة والسلامة المهنية ومئات العروض الأخرى …هي أيضا اختصاصات ذات شأن ولكن لا نتناولها في حديثنا اليومي ولا نُثمّنها بشكل كاف.

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version