“الباكالوريا هي أولى عناوين التميّز وأولى المكافآت وأولى الميداليات” (فيكتور هوغو)
نشرت
قبل سنة واحدة
في
تنبع الأهمية القصوى التي يوليها أغلب التونسيين للباكالوريا حسب اعتقادي من كونهم أصبحوا مُدركين تماما أن مفاتيح التغيير لم تعد بأيديهم وأن جميع ثرواتهم التي أطعمتهم من جوع على امتداد عقود، باتت مجرد “بلّوط” بالكاد تكفي لتأمين أجور وجرايات نهاية الشهر.
كما أدركوا أن حُكّامهم اليوم “على مراد الله” لم يتفوّقوا على سلفهم الطالح إلا بالإمعان في مزيد استبلاههم وإلهائهم وإيهامهم بأن الشعار أهم من محتواه ومجرد إعلانه أكثر إقناعا من العمل على إنفاذه. وعلى هذا الإدراك العفوي بنوْا منوالا جديدا لأنفسهم أهم ما يميزه تطليق الشأن العام والتوغّل في الاعتناء بالشأن الخاص من أجل ضمان البقاء على قيد الحياة بعدما كانوا ينشدون مزيدا من العيش الكريم وقدرا أكبر من الرفاه الاجتماعي… ويميّزه كذلك وضع كل الآمال والطموحات والمُدّخرات في دراسة الأبناء والحرص على تأمين أفضل مستقبل أمامهم. لذلك أصبحنا في تونس نعيش ما يشبه الحمّى والغليان الشعبي بمناسبة العودة المدرسية والجامعية واجتياز امتحان الباكالوريا ومحاولة التسجيل في أفضل المؤسسات وتخيّر أفضل المدرّسين وتلقّي بطاقات الأعداد واختيار أفضل المقاولات في مجال الدروس الخصوصية …
لذلك كانت الباكالوريا عنوانا مركزيا كبيرا في حياة العائلات التونسية ومنعرجا حاسما تُصرف في سبيله الأموال الطائلة وتشدّ فيه الأعصاب ويختزل فيه التطلّع إلى غد يتغلب على منغّصات الراهن وسياطه اللاذعة.
تحدوني الأمل من خلال هذه الورقة في تقديم بعض العناصر التقييمية الأوليّة للباكالوريا التونسية ـ خاصة أننا نعيش خلال هذه الأيام ملخّص مآلاتها المتصلة بما تُتيحه هذه العتبة المدرسية المحورية من آفاق دراسية في التعليم العالي- قصد الوقوف المتأمّل على هِناتها ومراكز قوّتها، باتجاه تعديل قد يأتي يوما…متمنّين أن لا يأتي على نحو لا ينتظره أحد ممّن ستقوم عليهم هذه التعديلات أو المراجعات المنتظرة، أي ما يسمّى في قاموس بالمحلّلين بالفاعلين التربويين كبُناة للإصلاح ومساهمين فيه وليس كمستهلكين له ومُتفرّجين عليه.
ما لاحظته شخصيا في علاقة بالظواهر الساطعة التي لا يمكن أن تكون محل تنازع يجدر تلخيصه في العناصر التالية :
أوّلا : الباكالوريا أو الاستفاقة المتأخّرة
من غير المقبول والمعقول أن يظل التلميذ التونسي يدرس إلى سنّ 19 سنة دون أن تعترضه أية محطة تقييمية رسمية وإجبارية في كامل المسار الدراسي إبتدائيا وإعداديا وثانويا، بما لا يُتيح أية فرصة أمام التلميذ وعائلته أولا حتى تُراجع طرق العمل ويتمّ التنبّه إلى الاختلالات البارزة في التكوين الأساسي أو عناصر القوّة التي يتعيّن تدعيمها ومزيد شحذها وتطويرها… وأمام المنظومة برُمّتها ثانيا حتى تُعدَّل المسارات في ضوء النتائج المحقّقة وعدم إكراه حشود بأكملها على متابعة دراسات طويلة، تتطلب صلابة في نواة التكوين الأولى وطول نفس ومشروع دراسي متبصّر يستبق مستقبل الدراسة بعد الباكالوريا.
ثانيا : لا مستقبل لباكالوريا تقوم على خارطة مُعوجّة ومتهالكة للمسالك والشُعَب في التعليم الثانوي
لم يتأكد من ذي قبل كما يتأكد اليوم ضرورة مراجعة الخارطة الحالية للشُعب والمسالك التي أضحت بالية ومتقادمة بل ومُدمّرة لأحلام أجيال بكاملها. وهو مشهد مختلّ تتورّم فيه شعب وتنتفخ فيه أخرى مقابل شعب تضمر وتنكمش وأخرى تمارس إبهارا كاذبا (مثل شعبة الإعلامية والعلوم التجريبية) لأنها تدّعي آفاقا لا توفّرها وتروم معانقة مستقبل لا تُتيح سبل الوصول إليه.
ثالثا : رُبع الناجحين في الباكالوريا هذه السنة (حوالي 15000) تقدموا هذه السنة بمطالب إعادة توجيه
أقدّر شخصيا بعشرات الآلاف عدد الذين تحصلوا على شعب دراسية في التعليم العالي لن يلتحقوا بها ولن يدرسوا فيها، إما لأن باكالوريتهم لا تمتّ بأية صلة للشعبة التي نالوها وقد نصص عليها مُكرها في استمارة التوجيه، أو فُرضت عليه بشكل جزافي لعدم توفر الشغور خارجها.
أو نظرا إلى بعد المسافات بين الموطن الأصلي والجهات التي تحتضن مؤسسات جامعية تظل تتوفر بها بعض الشغورات … أو لتأكد معاناة خريجي شعب معينة من خلال ما يتداوله الطلبة القدامى (مثل مهن التراث والعلوم الانسانية وبعض اختصاصات الاقتصاد والتصرف… )
ولو أحصينا في هذا المجال عدد الملتحقين بالتعليم العالي الخاص ومسالك مؤهل التقني السامي في التكوين المهني والمتصلين بمكاتب الوساطة للدراسة بالخارج والمشاركين في دورة إعادة التوجيه (أوت 2023 ومارس 2024 مستقبلا)، لحصلت لدينا فكرة دقيقة حول حجم الهدر الحاصل نتيجة باكالوريا رثّة في جزء كبير منها.
رابعا : منظومة وطنية للتربية والتكوين مفكّكة الأضلاع لن تقدر على الإقلاع
إن غياب المقاربة المنظومية التي تجعل من الالتحاق باختصاصات مؤهل تقني سام في التكوين المهني بعد الباكالوريا أفقا حقيقيا وواعدا أمام حاملي الباكالوريا، خاصة في مسالك التعليم الثانوي المتضمنة لبعض الأبعاد التطبيقية (وهنا أغلب المواطنين من الذين تحدثت إليهم لا يمكن إقناعهم مهما فعلت بأن هذه الشهادة تُعادل شهادة الإجازة الوطنية في التعليم العالي لا فقط من حيث فاعلية التكوين بل كذلك من حيث القيمة التنظيرية على المستوى القانوني) أضرّ كثيرا بمردودية نظامنا التعليمي وأعاق تطوّره في اتجاه نظام تتوازن فيه الأبعاد التكوينية ويسمح بالعبور لأوسع فئة ممكنة من اليافعين، مهما كانت أصولهم الاجتماعية ومستوى مكتسباتهم الأساسية نحو مجالات مهنية تحفظ كرامة روّادها.
خامسا : أزمة الباكالوريا مُضاعفة في الجهات الداخلية
لقد أصبحت لامبالاة الدولة وتقصيرها أمرا فادحا وفاضحا في حق الجهات الداخلية (والأحياء والمعتمديات الداخلية في الجهات الكبرى) التي تتدنّى فيها نتائج الباكالوريا بشكل مرعب وتتراجع فيها أعداد الملتحقين بمسالك دراسية واعدة نسبيا على نحو يبعث على الانشغال الحقيقي. وهنا يُدهشني جدا أن لا أرى وزارة أو مندوبيات أو مسؤولين يقيّمون عمق الشروخ التي أفرزتها الباكالوريا ويحاولون تفكيك ما حدث وإجراء قراءات جريئة في هذه النتائج من أجل استباق انطلاق السنة الدراسية الجديدة واجتراح بعض الحلول لمعالجة بعض التصدعات (وليس كلها) وإنقاد بعض ما يمكن إنقاذه… صادف أن تحدّثتُ إلى بعضهم : هم غير منزعجين ولا منشغلين لأنهم يعلّقون ببراعة كل الإخلالات على شمّاعة “تهميش مناطقهم المتوارث” و “ضرورة انتظار الإصلاح التربوي الوشيك” و “الطابع المركّب للأزمة”، الخ…
سادسا : أبعثوا شعبًا ذات تشغيلية عالية في الجهات الداخلية وستتغيّر المعادلة
لقد حان وقت إصلاح الوهن الذي أصاب الخارطة الجامعية التونسية والذي توارثناه منذ عقود عن توازنات سياسوية وقَبَليّة متخلفة والذي أعطى مؤسسات مرتجلة باختصاصات باهتة وبيئة جامعية ضحلة في معظم الجهات الداخلية، بما أثّر بشكل سلبي على جاذبية “الأقطاب الجامعية الجديدة” ومستوى الإقبال عليها.
لا أرى شخصيا ما الذي يمنع من بناء شراكات مُثمرة بين هذه المؤسسات الجامعية الناشئة وكبرى الجامعات العالمية، خاصة في علوم الكمبيوتر والسلامة المعلوماتية والديمومة البيئية والروبوتيك والتحوّل الرقمي والمهن الصحيّة الخ… كأحد الحلول التي من الممكن اعتمادها في سبيل إعادة الاعتبار لهذه المؤسسات المنسيّة وتجاوز واقع العزلة الجامعية والأكاديمية الذي فُرض عليها.
سابعا : منظومة التوجيه الجامعي تعمّق أزمة الباكالوريا بدلا من تذليلها
إن عدم الاطلاع على خصوصيات التكوين في التعليم الثانوي في مختلف الاختصاصات (نتيجة عدم وجود أي نوع من أنواع التنسيق بين متفقدي المواد ورؤساء اللجان القطاعية في التعليم العالي) وعدم توزيع الناجحين في الباكالوريا على عروض التكوين الجامعي بشكل أكثر نجاعة وموضوعية ومحدودية طاقة الاستيعاب في الشعب الجامعية الواعدة، والمبالغة في اعتماد المقاييس الكميّة على حساب شروط الدافعيّة والاهتمام والطموح لدى الطلبة الجدد… هي أهم سمات القصور في منظومة التوجيه القائمة حاليا حسب اعتقادي..