من كل أمريكا و دولتها، لا تسمع إلا بالرئيس و وزير الخارجية و وزير الدفاع في المعامع الكبرى … لا توجد وزارة للمرأة و لا وزارة للتربية و لا وزارة للشؤون الدينية و لا كتابة دولة للتنسيق مع برلمان محفوظ مع الحمص و الجلبانة في درجة حرارة تحت الصفر …
و مع ذلك فالمرأة الأمريكية بخير، و التربية كل الناس يتحلّون بها، و الدين محترِم و محترَم، و العلاقة مع الكونغرس كالزيت فوق الماء … نحن في المقابل لنا جيش من الوزارات و كتابات الدولة و الإدارات الجهوية و المندوبيات العامة و الدواوين الوطنية و الهيئات المستقلة و المراكز و المراصد و المعاهد و المساند (جمع مسند) تقول كأننا أمّ الحكومة نغطيها بمائة غطاء و غطاء حتى لا تبرد أو تعطس أو يضربها هواء …
و ما يأكل على القلب و يشرب، هذه الطُغَم الجرارة من المستشارين في كل تركينة و كل مجال … الرئيس له مستشاروه، و رئيس (ة) الحكومة له (ها) مستشاروه (ها)، و رئيس البرلمان المرحوم كان محاطا بقافلة خير، و كل وزير أو وزيرة نفس الشيء، و معهم ر م ع الشركات العمومية، و البنك المركزي، و بنوك الدولة الأخرى، و حتى جامعة الكرة لها أشخاص تعينهم و تؤجرهم برتبة مستشار …
و يقول قائل: و لكنك استشهدت بأمريكا، و المستشارون هناك لهم أسماء و أصوات أعلى أحيانا من صوت الرئيس … و الجواب: أن هؤلاء تخصصوا في مهامّ محددة و أتقنوا إنجازها و أكسبوا بلادهم كل معاركها تقريبا (حربين عالميتين و حربا باردة و حرب خليج) … فما هي المعركة التي ربحناها بفضل مستشارينا؟ ضد التخلف؟ ضد الفقر؟ ضد الجهل؟ ضد التبعية؟ … بل و ماذا يفعل هؤلاء، و من يستشيرهم، و بماذا يشيرون، و ماذا استفدنا من الإشارة و أسماء الإشارة؟
الحصيلة معروفة بما نراه و ما نسمعه … فلو نفعتنا استشارات مصطفى خزندار لما أمضى الصادق باي على معاهدة الاحتلال … و قبل ذلك استشارات مماثلة لتفقير البلاد و جبرها على تسوّل العون من الخارج … و لو أفادنا سيسيل حوراني كمستشار للزعيم، لما أمضينا على وثيقة استقلال مضروبة … و لو أحسن مستشارو الزعيم نصحه في السبعينات لما فسح المجال لتجّار الدين بأن يكونوا رأس حربته في مواجهة اليسار الطلاّبي … تماما كما كان السلاح الرسمي في مواجهة حراك الثمانينات … و لو أشاروا عليه بالمصلحة الوطنية، لانفتح على متنوّري حزبه أوّلا، و على قوى التنوير في تونس ثانيا، و لكسبنا الكثير منذ تلك الفترة المبكّرة …
عشريتا التسعينات و الألفينات ضمّتا خيرة المستشارين و زبدة الجامعة التونسية على ذمة النظام … و لكن جشع ابن آدم و طغيان العائلة حوّلا هؤلاء الأفاضل إلى مدبّري سوء و مبيّضي مافيا و الحصيلة انهيار الدولة في أخر المطاف …
و يفضي الأمر إلى دولة لا دولة … دشّنت عهدها الأشمّ بحكومة 2012 الشهيرة التي كانت تحوي ـ عدا قفير الوزراء ـ أكثر من سبعين مستشارا برتبة و امتيازات وزير … لكل حزب شطيرة، و من كل حزب شوكة و سكّين … و كان هذا و غيره كافيين و في أشهر قليلة، لتجريف ما جمعته بالمليم و الدورو، خزينة الدولة على مدى ستين عاما …
و نتائج عبقريات المستشارين و استشاراتهم وصلنا إليها الآن حيث نتفرج كل يوم على بدعة … و ربّنا لا تصب بهم حبيبا و لا حتى عدوّا.