بنات أفكار
بورسعيد … روح المدينة ونوستالجيا الشخصية
نشرت
قبل 3 سنواتفي
من قبل
صالح السيد Saleh El Sayyidتنفتح عتبة العنوان في رواية “سماء بلون الشفق” للروائي “إبراهيم أبو حجه” على فضاءٍ متعالٍ ينشحن بسيمياء الخطر، الحمرة /الاشتعال، فيدفع المتلقي إلى حال من الترقب والحذر فيستشرف آفاقًا من المفاجآت المتعددة.
وإذا كانت الرواية ـ كما يقول جورج لوكاتش ـ هي”سِنّ النُضج”، حيث يواجه الإنسان وحدته وإشكالياته، ليحمل مسئولية نفسه، واختياراته، وقلقه، في الاتصال بين ماضيه ومستقبله، بين ضياعه وخلقه المتجدديْن، فإن هذه الرواية معنية بتصوير المسار الجمالي للفرد في بحثه عن مجموع كلي ما، عن تجانس ما، عن هوية يحمل صورتها في أعماق نفسه.
ويعتمد البناء السردي للرواية على “المونتاج” ويتعدد استخدام تكنيك “الفلاش باك” و كذلك “المنولوج الداخلي” في عرض المحتوى الداخلي أو النفسي للشخصية.
ويقوم التشكيل السردي على المقابلة بين صورتين للمدينة – بورسعيد – في زمانيْن مختلفيْن : الأولى في الماضي لمدينة احترفت النضال وشهدت وقائع أسطورية وأياماً خالدة من البسالة والبطولة تؤكدها أحداث جليلة في العدوان الثلاثي وحرب الاستنزاف، والأخرى هي في الواقع المناقض؛ حيث مدينة البضائع والعملات النقدية وواجهات المحلات “الفاترينات” اللامعة، التي تجذب الأنظار إلى عالم الموضات ،وهنا يقع السرد في ثنائية الحضور/الغياب، فالأماكن والشخصيات الحاضرة في النص الروائي تقع في حالة تهميش، أو اغتراب واضح، وهنا يستولي على شخصية البطل ـ علي عليوه ـ حنين دائم وجارف إلي الصورة الأولى وجوداً وتاريخاً محفوريْن في أعماقه ومن هنا يظهر هذا الإنسان الذي يحاول توحيد ذاته المتشظية وروحه الغارقة في لُجّة الضياع، وتأتي لحظة خروج البطل الوحيدة من المدينة إلى القاهرة إبان ثورة يناير ـ وهو الحدث الأعظم في الزمن الحاضر ـ باعتبارها إشراقة أمل واستعادة غالية لتاريخ من الحرية والمقاومة الذي عاش فيه وحلم باسترجاعه.
الشخصية والمكان :
تتسم لغة السرد في تلك العلاقة بالغنائية والتشكيل الجمالي الشعري، فبطل الرواية “علي عليوه” كاتب المواليد والوفيات – وهي مهنة واقعية ذات بعد رمزي – باعتباره هذا الشاهد/الرقيب علي تاريخ أبناء المدينة، يظهر دائما في حالة انغمار نفسي وعاطفي، في معية العشق و التدامج مع المكان “بورسعيد” ويلجأ الراوي إلى ضمير المٌخاطب الذي يمنحه فرصة مراقبة الشخصية وتأملها في حركتها الدائبة، متداخلاً مع ضمير الغائب الذي يفتح مجالاً للاحتكاك بالشخصية و وصف تفاصيلها وعالمها المترامي .
كما يتسم السرد بالكثافة وينحاز إلي المجازية، ويتحكم الراوي في علاقة الشخصية بالمكان حتى يحقق تناميا سرديا تقوم فيه اللغة بدور كبير لتحقيق هذه الفاعلية الجمالية، و يعكس هذا المشهد شعرية الحالة :
” تتهيأ بوهج أنفاسك .. وتتخذ سمتًا في الضباب .. تتحرك ثملاً .. تتحسس طلاء الحوائط، فيسقط عنها لونها نضرًا و زاهيا .. تتبدى بيوت الإفرنج بطرازها الأوربي وقد علاها التراب .. ينفخ ويمشي مسحورًا تنعكس علي المرايا المواجهة رغبته في بلوغ الميناء وما إن يبلغ شارع محمد علي آتيا من الجنوب حتي ينعطف شمالاً . الظلمة خافتة كأنها غلالة حلم تحجب الظلال في شوارع تتداخل فوقها بقع الضوء.. شوارع خلت إلاّ منه ، تداخلت بقع الضوء التي تجلت علي رصيف الميناء، نظرها بحب وهو يسير مأخوذًا، توقف وتملّى المنظر حتى دخله المعنى مجتاحًا ومستقرًا .. سأفيق على أمكنة حية ما تزال تتناوشها أسماك العمق، ينتصب في المكان العنبر المشيّد بالطوب الوردي الأملس ، أسيرا مأخوذًا، يجتذبني التراب الممغنط بدم الشهداء “.
- المدينة والتاريخ المشرق:
تعمل تقنية الاسترجاع على تحويل السرد إلى ذاكرة حاضرة تنبش في ذاكرة قديمة وتتعدد مداراتها بين الفضاء المكاني والفضاء الاجتماعي، ففي الفضاء الاجتماعي ترصد روح المقاومة وحالة الاستنفار التي تلبست الصغار والكبار في الذود عن المدينة و صدّ العدوان الثلاثي والدفاع عن كرامة الوطن وهو رصد لا يكشف عن حالة الخوف و الجزع الحذر؛ إنما يحتفي بحالة البهجة والسعادة والشعور بالزهو والنشوة :
“جلسنا على حواف البالوعة الخرسانية فوق الرمل الناعم المجلوب من الشاطئ ورحنا نغني … رفعت أنت الطبق الصاج الذي كان عليك أن تحضر لهم فيه الفول المدمس للعشاء وراحت أصابعك تتدافع عليه فيخرج الإيقاع منتظماً يعلو الرنين (إيدين وبن جوريون وموليه .. جايين يحاربونا على إيه .. هو الكنال دي في أراضيهم) الإيقاع يعلو فتشتعل الحناجر التي أخذت تهدر وراءك ونحن اندمجنا مع الحالة بالأكف الصغيرة نصفق، فيعلو الإيقاع آتياً من حواف الساحة كان ينزل علينا ليسبح وجودنا تحت وجوم الليل قريبًا من قلوبنا ومن الشرفات التي بدت معلّقة في الفضاء”.
كما يعتمد الراوي في وصف الفضاء المكاني على منظوره الخاص متضافرًا مع منظور الصورة الشعرية والتي تعكس أيضاً حالة القوة، روح الشجاعة، والبسالة، التي تلبست المكان:
” كانت كأنها النسور، حطت على الأرض، تنشب مخالبها في الرمل، وتقف موزعة في خطوط متناسقة، تخترمها الساحات، تلك هي عمارات ناصر التي بنيت في بداية ستينيات القرن الماضي ..أخذ يحك عينيه في حوائطها الجهمة عله يجد ما خطته الروح يوم أن غرز سبابته في الرماد وخطّ : الموت للأعداء”
- المدينة والواقع المناقض :
يتجلى انحياز الراوي القيمي والإيديولوجي من خلال رصد حالة الانتكاسة والتراجع التي أصابت المدينة ومسختها سواء أكان على المستوى المعنوي أم المادي إذ إن سياسية الانفتاح التي اتبعها السادات، شوّهت وجه المدينة، فانزلقت بها من منعطف إلى آخر من تاريخ للبطولة والصمود إلي سوق رائجة للبضائع من كل صنف، إنها زيفت التاريخ ومسخت الأفراد وتاجرت بقيمهم، أو ربما أصبح المال هو قيمتهم الوحيدة :
” ..أين هو الأفضل ؟؟ والأسوأ يجتاح .. يغتصب .. كهذه الموجات التي تتدافع به في نهر الشارع .. كراتين كثيرة متراصة في نهر الشارع، والبضائع بين أيدي اللاهثين تنتقل زائفة وبراقة تتخطف المتهافتين، وقد أتوا من كل حدب وصوب إلي هذه المدينة التي انفتحت بعد القرار الجمهوري الذي أصدره السادات .. ورق البنكنوت يجتاح مخرفشًا .. رنين المال خلاب .. والغالبية يرقصون إلاّ نفسه التي – فجأة – قالت له: ماذا يعجبك في شارع أصبح لعنة حقيقية .”
كما يتكرر خطاب الإدانة في صورة أخري علي المستوي المادي الجمالي حيث فقدت المدينة رونقها وهويتها العمرانية وجمالها الفاتن وانزلقت دون أدنى مقاومة إلى عشوائية صارخة وربما تأتي هذه الحالة نتيجة لتخليها عن دورها ومكانتها كما يصف الراوي:
” كلهم يتفقدون شوارع خلت مما يدلّهم علي أنفسهم، أبراج شاهقة قامت تعاركت فيما بينها، بعد الحرب لم تزل سوى بيوت قليلة، فقال مسامراً نفسه: نجح السلم في ما لم تنجح فيه الحرب .. وهو تغيير وجه المدينة فها هي الأبراج تناثرت متخللة البيوت الخشبية، ولا غير تقطيبة سؤال تواجههم في جبينه عما كانوا يحلمون به؟! ..”
- الثورة و حالة الانعتاق :
مع أحداث ثورة يناير تتبدى حالة الانفتاح المادي والمعنوي للرواية، فعلى المستوى المادي يتسع المكان ليتجاوز حيز المدينة عبر أماكن أخرى في طريق السفر والعودة ومناطق مختلفة في القاهرة ومنها ميدان التحرير، كما يظهر البطل وهو المحب للعزلة والفردية وسط حشود غفيرة من الجماهير، بينما على المستوي المعنوي فإن الذاكرة والحلم يتحولان إلي واقع مشهود فهاهي روح المقاومة والحرية ـ التي جسّدتها المدينة ـ تسري في أرجاء الوطن كله، وهنا تشعر الشخصية بحالة الانعتاق الروحي والنفسي والعاطفي ، ويستجمع الراوي كل قوى التصوير في كاميرته ليصور هذا التحول الخطير حيث يتماهى مع الجموع ويتمظهر المشهد تمظهراً تشكيليا وحركياً يبرز عظمة وقداسة هذا الحدث :
” حشود حول قلبه تضخ دفئًا آتيا من كافة أنحاء مصر جماعات كانت تمشط الشوارع (يا أهالينا يا أهلينا إحنا بنهتف ليكو ولينا) ربما ما تراكم في النفوس من قهر هو ما دفع الناس الي الميدان راح يهجس بذلك وهو منصرف وراء صوته الذي أخذ يهتف مع الهاتفين .. يخرج من داخله حماس يجعله لا يحس برد يناير القارس كانت الحشود تصب في ميدان التحرير الذي شغل فيه مجرد نقطة، تتجمع الجماعات وتسير تهتف بحماس بالغ تمشط شوارع القاهرة التي بدت له مختلفة ذلك اليوم وهو بين الحشد محشور يهتف بحماس بالغ ” .
ـ______________________________________
الهوامش :
1- د. عبد البديع عبد الله ، الرواية الآن ، ص 75
2- د. أمينة رشيد ، حول بعض قضايا نشأة الرواية : ،مجلة فصول ،المجلد السادس 1986م، ص 99
3 – د. نبيلة إبراهيم ،قص الحداثة ، مجلة فصول المجلد السادس 1986م ص 111
4 –د. محمد زيدان ، السرد والحكاية : ص 117
تصفح أيضا
بنات أفكار
المعمار الشعري وفضاء الرؤيا… في ديوان “أحاديث الكباش”
نشرت
قبل 7 أشهرفي
10 مايو 2024من قبل
التحرير La Rédactionالشعر هو فن التشكيل لنص العالم بجماليات اللغة، من خلال إبداعات القصائد التي تبحث في جوهر الوجود، وتُفصح عن كينونة الإنسان، حيث تستلهم في محبة صادقة روحه الصافية وأحلامه العذبة، وتنسج بمغزل من القلب المكلوم أوجاعة المضنية، وربما لم تعرف البشرية عبر العصور صورتها الحقيقية إلّا بفضل المبدعين من الشعراء .
يتشيّدُ المعمارُ الشعري للنصوص في ديوان “أحاديث الكباش” للشاعر حسين القُباحي من المشاهد القادمة من وحي الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأساطير والحكايات بكل تجاربها وأشكالها و ظلالها، وصفاتها وتعددها وتباينها، من أجل افتتاح نافذة للرؤيا في اتصالها بالعالم تكشف عن غموضه وأسراره وتشكيلاته،
كما تفتح بوابات النصوص على نداء قادم من أقاصي الحلم يضاعف من طاقتها على الاستشراف وقراءة الآتي والغامض والماورائي.
“لم يكن غيرُ ظلي
وبقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين
تذهلُ عما يدور
بائعةُ الخبزِ لم تنتبه للرصيفِ
حين تلاشى
ولا العصافيرُ طارت حين أهالوا عليها التراب
كيف رستْ مسلّةُ على كتفي
وأنا أهرولُ
دون أن أدري
وكيف يطيرُ ظلي في الفضاء
والقدمان خائفتان من نظرِ النوافذِ للطريق
بينما شمسُ المدينةِ ترتمي
في حِجْرِ قريتِنا العجوز “
ينتمي الشاعر إلى الأقصر – موطنه الأصلي- وهي “طيبة” عاصمة الحضارة الفرعونية، فكيف يرى الحاضر الآن؟!
تتبدى في استهلال النص إدانة واضحة للحاضر، حيث تغتال المكان قشرة من المدنية الزائفة: تطول الفرد فتنطمس هويته “لم يكن غير ظلي”، وتستولي على المكان فيتوغل مرغمًا في الاغتراب “بقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين” وتخضع الأرصفة لقانون السوق “بائعة الخبز”.
غير أن الماضي لا يموت، ففي لحظة صاخبة، يستعيد المكان ذاكرته الخالدة ومجده التليد، وينزع عنه ثالوث الخضوع والمذلة والاستكانة فيفجّر البراكين، ويدفع بالأعاصير، فتجتاح الفضاء هالة من التغيير “البيوت تذهل، الرصيف يتلاشى، العصافير تتجمد من الخوف، الظل يطير، القدمان خائفتان”، فتنقشع المظاهر الكاذبة، ويستعيد المكان رمزه الشامخ (المسلّة) التي تصطفي الشاعر “الفنان”، و تنتصب على كتفه “كيف رست مسلة على كتفي”، فهو الابن البار لحضارته العريقة، التي تعود تزهو بحضورها الأصيل في القرية “شمس المدينة ترتمي في حضن قريتنا العجوز”.
“ماذا لو اقتنعت الحديقةُ
بجدوى مروري
فحوّلت أشجارها قليلًا
وباعدت بين الحشائش
ويداً بيد
قادني الحارسُ الكهلُ
للمنعطف
حيث الحصى يحبسُ الشوك
والرملُ لا يستحلُّ النُّعاس”
يتشوق الشاعر إلى المكان الحُلم حيث ينفتح النص على تساؤل جمالي لأيقونة الخضرة والبهاء “ماذا لو اقتنعت الحديقة” يعطي للشاعر حرية الحركة “حوّلت أشجارها، باعدت الحشائش”، حيث تتشكل منظومة من السلام الأرضي“الحصى يحبس الشوك”، والطمأنينة الناعمة “الرمل لا يستحل النعاس”،
“على الأطلال
طال وقوف من حولي
ويشغلني صفائي عن توترهم
وعن سهر الرسائل
والكلام
لأبعد من هناك
ومن هنا
طارت مُخيّلتي
وأقدامي تخلت عن تواضعها
فاقتربت إليّ
وامتدت حواراتي”
يسترجع الشاعر زمن أجداده من فحول الشعراء “على الأطلال”، لكنه ينفلت من حزنهم المقيم وأوجاعهم المضنية، وتمزقهم مع الجموع، حيث يتوحد بذاته المتصوفة “ويشغلني صفائي عن توترهم”، وتبدأ الأنا رحلة الصعود مع الفضاء الكوني “طارت مخيلتي”، وقد انسلخ الجسد من جاذبية الأرض “وأقدامي تخلت عن تواضعها”، لتمتد النجوى أو ينفسح للكلام كل المعمورة.
” والنخلُ لا يتحمل البوح المفاجئ
في الصباح
أحلى وأعلى من رجوع المبعدين
مواكبُ البسطاء
غمغمة العجائز بالعديد
قلق به السكرانُ لا يخشى فصاحته
فيحدّث الوادي
ويبتدر المسالك بالغناء”
ينغرس النخل بحضوره الأصيل فريدًا في تربة الاستهلال، وهو رهيف القلب “لا يتحمل البوح المفاجئ”، واستطالته باذخة الحنين “أحلى وأعلى من رجوع المبعدين”، لكنه لا ينعزل في عليائه، حيث يتنزّل جماليًا على بقعة الوادي تستظل به “مواكب البسطاء”، وتأمنه “غمغمة العجائز”، ويطمئن “قلق السكران”، ويحاور الوادي كي يشق مسارب الفرحة والطرب “يبتدر المسالك بالغناء”
” كنت أريدني صقراً خرافياً
جناح دجاجة
خالاً على خدّ
قدماً تسير إلى البعيد المختفي
نارًا بها يستدفئ الفقراء في ليل الشتاء”
يقع الشاعر في حلبة الأمنيات بين الفوز بالأنا عبر التحليق في طبقات المُثل العليا، والهبوط الاضطراري إلى الأرض وملامسة الواقع.
ففي الحالة الأولى تتبدى الرغبة في القوة الأسطورية “صقراً خرافياً” والوداعة الحالمة “جناح دجاجة”، والجمال الناعم “خالاً على خد”، والقَدَم السحرية “تسير إلى البعيد المختفي”
أمّا في الحالة الثانية فهو يجنح الي عالم الواقع، إذ يرغب في أن يحترق من أجل الحياة، من أجل مِلح الأرض وهم البسطاء “نار يستدفئ بها الفقراء في ليل الشتاء”
عازفُ الليل العجوزُ
ـ مستندا إلى عبق الصبا ـ
يرتاح من أيامه الأولى
ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد
مازال في عينيه فيضُ غواية
وصبا يخالطه الخريف
أصداءُ روح فاترة
شربتْ عصارته السنون ولم يزل
ريّان تستهويه أنفاسُ النساء إذا احترقن
ولا يبالي إن فررن إلى الجنون
متلفّعاً ألوانه الأولى وخشيته من الفرح المفاجئ
يستظل بحزنه ويسير
لا يُلقي إلى الأحداث بالاً
لا ينيخ حمولهُ
إلاّ وقد بزغ الصباح
يُطلق على الرجل المُسنّ في اللغة الفصحى لفظ الشيخ بينما يُطلق على المرأة المُسنّة لفظ العجوز، لكنّ الشاعر يستملح اللغة الدارجة (العامية) تقّرُبًا إلى البيئة الشعبية، تلك التي تساوي بين الذكر والأنثى بلفظ العجوز.
يشتغل الفعل الشعري بطاقته الدرامية والسردية وبحساسية فنية عالية التركيز على شخصية منتخبة، حيث ينفرد العجوز/الذكر بقلب الحكاية، وهو فنان أصيل لا يعترف بغير زمن وحيد، هذا المساء الذي يلّفُ العالم بغلالته السحرية، ويقع وصف الشخصية بين حالتين متناقضتين: مغامرة جسورة في معترك الحياة، ومغالبة قاسية من تيارها.
ففي الحالة الأولى: تتجسد الشخصية في الاستهلال كخلود جماليّ خارج الزمن، لا يرضخ تحت وطأة الكهولة الغاربة، وإنما يتدفق بحيوية صارخة “مستندًا إلى عبق الصبا”، وفحولة راسخة “عينيه فيض غواية، ريّان تستهوية أنفاس النساء”، كما يشارك الصوت/النغم في الاستهلال وينسرب شجيًّا في شريان المتن “ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد”
أمّا في الحالة الثانية فالجفاف يتسرب إلى كيانه “شربت عصارته السنون”، والجمال يتصدع في وجهه “صبا يخالطه الخريف”، والحزن يعرقل حركته “يستظل بحزنه ويسير”.
لكنه بشموخه الوافر وإرادته الصلبة يقود هذا المساء الجميل إلى إشراقة جديدة “لا ينيخ حموله ، إلا وقد بزغ الصباح”.
____________________________________
الهوامش :
1 – دراسات نقدية في الأدب الحديث : عزيز السيد جاسم
2 – إشكالية التعيير الشعري وكفاءة التأويل : د. محمد صابر عبيد
3 – ديوان أحاديث الكباش : حسين القباحي
أصدر الصديق الدكتور بلقاسم صبري كتابا عنوانه “طبيب المصعد الاجتماعي” عن دار نظر للنشر وسيقام حفل توقيعه خلال يوم الخميس القادم بمعرض الكتاب.
وقد كان الدكتور بلقاسم صبري من اوائل الأطباء الشبان الذين رسموا تحولا هاما في برامج و توجهات قطاع الصحة العمومية نحو الميدان الوقائي… ويمكن ان نعتبر انه و الفريق المرافق من أطباء خلال الثمانينات اذكر منهم واعتذر للبقية الدكتور فرزة و الدكتور عبد الكريم الزمزاري و الدكتور المرحوم على القراوي، كانوا مناضلين حقيقيين من جنود الخط الأول لمنظومتنا الصحية… وقد عمل الدكتور صبري مديرا جهويا لكامل ولايات الشمال الغربي مجتمعة (الكاف، جندوبة، باجة، سليانة) في أول الثمانينات. كما تم اختياره مسؤولا إقليميا بالمنظمة العالمية للصحة وشغل أيضا خطة كاتب دولة.
لقد سنحت لي فرصة الاطلاع على هذا الكتاب الذي فرض أهميته بفضل المواقف الإنسانية والوطنية لدى الدكتور صبري بالإضافة إلى سردية الذكريات الجميلة والنوستالجية احيانا و المصاعب و الأحداث خاصة بجامعة هارفارد الأمريكية حيث تحصل على أعلى شهائدها كذلك نلمس عبر الكتاب تمسك الدكتور بلقاسم صبري بقواعد الديونتولوجيا الطبية بدقة عالية خاصة بجانبها الإنساني.
كتاب مهمّ يعد محظوظا من يحصل على نسخة منه خاصة ان ريع مبيعات الكتاب سيتبرع به المؤلف والناشر لأشقائنا الفلسطينيين عن طريق الهلال الأحمر التونسي.
إنّ وَصْفَةً واحدةً لمجموعة تقنيّة حديثة تتطلّبُ قرابة ستّة ملايين مرْجَع، أي مائة مرّة ما يتوفّر عليه مُعجم لغةٍ ما. وإنّ تعقيداتِ الحياة وحدَها هي ذاتُ سِعَة لا تُقارن: بين خمسة ملايين وخمسة وثلاثين مليون نوْعٍ من الكائناتِ الحيوانيّة والنباتية، حسب تقديرات (التسعينيات). فالتقنيّة تعني أننا إزاءَ لغة مُفرطة، تتخثّر داخلها أنصافُ مفرداتٍ، تمثّل بدوْرها حصُوناً لغوية. إنّ اللّغات التقليديّة الثلاثة آلاف، المُتكلّم بها على الكُرة الأرضية هي في حالة انقراضٍ، وعشراتٍ منها فقط، معترفٌ بها عالميًا، وبالتالي تراجُع الأخرى إلى المستوى الثاني. وفي هذا الوقت فإنّ اللّغة (المصطلح) التقنية تعرفُ انفجارًا هائلا، بفعلِ تعدّد الاختصاص.
يعتقدُ الباحثُ الفرنسيُّ جُورج ريُو Georges RIEU مُدير أبحاثٍ في المركز الفرنسي للبحث العلمي CNRS والمتخصص في التكنولوجيا الدقيقة وعلم الذرّة لمدّة تفوق الثلاثين عامًا، أنّه نجحَ في وضْع أساسٍ للغةِ المُستقبل، بعد سنواتٍ من التفكير والبحث، وتدخلُ ضِمن “اللغات المُخادعة” كتلك التي ابتدعَها جورج أورْويل في روايته الشهيرة “1984”. وتتمثل هذه اللغة الجديدة في ابتكار أبجديّة من 5000 حرفٍ، تمثل رُموزًا وصُورًا بسيطة قادرةً على تحقيق التّواصل بشكل أسرع، وأنّها “لغةٌ دون كلماتٍ، أو نَحْوٍ. سريعة وقويّة وخلاّقة؟”
هي اللغة الفِطرية في دماغِنا. أطلق عليها اسم “فلاشْ برين Flash Brain”، أو اللغة الذّهنيّة ذات الطّبيعة السمعيّة والبصريّة.ويقرّ ريُو أنّ تصنيفَه تعسّفيّ بعض الشيء، وأنه سيواجهُ غضبَ اللغويين واللسانيين، ومع ذلك، فإنه يشدّد على ضرُورة وجُود أداة رائعة للمنبُوذين لغويّا: “هو نظامٌ عالميٌّ يتيحُ لكل فردٍ في العالم أن يستخدِم شبكة الإنترنت على سبيل المثال. إنها ميزةُ الإبداع والخيال، إنّه يُربّي الدّماغ”. وحتّى يواجه جُورج ريُو أيّ نفُورٍ أو رفضٍ لفكرته
يقول “يمكنُ مثلاً للفرنسيين أن يضحكُوا، لكنّني على الأقلّ فعلتُ هذا من أجل الأطفالِ والصمّ والبُكم”.إن حروبًا تبدُو صامتة، لكنها أكثر ضرَاوة عندما يتعلقُ الأمر بالسيّادة اللغويّة والهُوية الثقافية، ذكرتُ بعضها في هذا المقال ليدرك النّاس أنّ التفكير السياسي يتراجع كثيرًا عندما يشعر الساسة أنّ المجتمع مهدّد في وجوده الثقافي واللغويّ. من ذلكَ أنّ الشّيء الذي لم ينتبه إليه الناسُ هو ما تشهدُهُ الولايات المتحدة من نقاشٍ حول مكانة اللغة في المُجتمع الأمريكي، إذ أنّ حربًا تدور بعيدًا عن عيُون السّاسة، يخوضُها المفكرون خاصة. فالأصواتُ ترتفع للمطالبة بدسترَة اللغة الإنكليزية، كلغةٍ رسميّة، في ظلّ الصّعود القوي للإسبانية، وحتى للغات الجاليات الأخرى.
أفرَد المُفكر الأمريكي صامُويل هانتنغتون، جزءًا كبيرا لأزمة اللغة في الولايات المتحدة، ويُبدي تشاؤمًا صريحًا بشأنها، كونها تشكّل عنصرًا حاسمّا في بناء الهُويّة “البيضاء” كما يصفُها، فيقدّم نقدا مُباشرا للهجراتِ اللاتينية الأمريكية و”السّماح بتدريس اللّغة الإسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسميّة في العديد من المُدن في الولايات الأمريكية”، خاصّة أنهم يمثلون 12% من تعداد الشّعب الأمريكي، (والإحصاءاتُ تقول بأنهم في حدُود العام 2050 سيكونُون الأغلبيّة) فضلاً عن ارتباطِهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة. ولا يخفي هنتنغتون قلقَه “الذّاتي” تجاه من ينادُون بإقرار اللّغة الإسبانية لغة ثانية رسميّة، ويرَى في ذلك أحد أخطر التّهديدات الموجهة للهُوية الأمريكية لأنه ينذرُ بتحوّل أمريكا لبلد ذي هُوية لغوية ثنائية إنكليزية-إسبانية. فهو يرَى أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي تسّببَ في عدَم تبلوُر عدوّ جديدٍ للولايات المتحدة يُسهم في التفافِ الأمريكيين حول هُويّتهم الوطنيّة، كلّ هذا أدّى إلى تراجُع مصادر الهُوية الأمريكية الرئيسَة، وهي الإثنيّة البريطانية والعِرق الأبيض والدّين المسيحي والثقافة الانكليزية – البروتستانتية.
فحسب هنتنغتون، كما جاء في مقال لعلاء بيُومي، سيكُون مستقبل أمريكا مع هُويّتها، إمّا بـ:
– فُقدان للهُويّة وتحوّل أميركا إلى مُجتمع متعدّد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القِيم السياسية الأساسية.
تحوّل أمريكا إلى بلد ثنائيّ الهُويّة (إنكليزي-إسباني) بفعل زيادة أعدادِ ونفُوذ الهجرات اللاتينية الأمريكية.- ثورة الأمريكيين البيض لقمْع الهُويات الأخرى، وهو احتمالٌ قائم.
– إعادة تأكيد الهُويّة الأمريكية من قبل الجميع، والنظر لأمريكا كبلد مسيحيّ تعيش به أقلياتٌ أخرى تتبعُ القيم الأنكلُو-بروتستانتية والتراث الأورُوبي والعقيدة السياسية الأمريكية كأساس لوحدةِ كافة الأمريكيين.
هذه الهواجسُ، التي عبّر عنها هنتنغتون بلغة صريحة، وبطرح رُؤية لا تراعي أدنَى محاذير التنوّع العرقيّ واللغويّ والدينيّ، من ضرُورة العودة إلى سيطرة البيض على مقادير الولايات المتحدة، كحقّ استعماري (..)، فقد أصدر المعهد الملكي الإسباني (إلكانُو) تقريرًا مفصلا عن مُستقبل اللغة الاسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية، إنْ كانَ حوارًا أم صراع ثقافات، وهل أنّ اللغتان الانكليزية والاسبانية تتنافسان على المستقبل، فيعتبر هذا التقريرُ أنّ الاسبانية هي اللغة الثانية بعد الإنكليزية. إلاّ أن هذا الوضعَ لا يعني أنّ الأمر عاديّ، فهناكَ أسئلة جريئة تُطرحُ مثل: “هل ستختَفِي اللّغة الاسبانية كلغةِ تخاطُب؟ هل ستحافظ على وجُودها كلغة مزيجَه؟ أم هل سيأتي يومٌ تكون فيه اللغة الاسبانية إلى جانب الانكليزية في مُجتمع أمريكي مُزدوج اللغة والثقافة؟”.
ويخلُص التّقرير الذي نشرتْه صحيفة الزّمان في 2004 إلى أنّه “كلّما كان الوُجود الاجتماعيُّ للشّعب الناطق بالاسبانية، في الولايات المتحدة، أقوىَ، تكون الإمكانات أفضل لصالح حُدوث المزيج بين اللغتين والثقافتين”، وقد أُطلق اسم (هيسبانغليشHespan-english) أو Spanglish. على هذا التمازُج اللغويّ. فمن يجرؤ على إيقاف غليانِ اللغة؟.
هذه بعض الأفكار، استقيتُها من كتابي “انتحار الأبجدية: من بُرج بابل إلى أبراج مانهاتن”
(من كتاب أبوليوس يهرب من ظله)
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 17 ساعة
ورقات يتيم… الورقة 92
- اقتصادياقبل يومين
النكهة التونسية في الصالون الدولي للشكلاطة والمرطبات
- اجتماعياقبل يومين
غدا الاثنين… انطلاق امتحانات الثلاثي الأوّل
- ثقافياقبل يومين
اختتام أيام قرطاج المسرحية
- ثقافياقبل يومين
قريبا… “أيام سينما الجبل” بعين دراهم، والسينما التونسية إلى أين؟
- صن نارقبل يومين
الذكاء الاصطناعي و إدارة المشاريع بتونس
- صن نارقبل يومين
مستبقا صراعه مع الصين… “بايدن” يمهّد لخلفه “ترامب”، الطريق نحو إفريقيا
- صن نارقبل يومين
“الأونروا”: أكثر من 415 ألف نازح بغزة يحتمون في مدارسنا