بنات أفكار

بورسعيد … روح المدينة ونوستالجيا الشخصية

نشرت

في

تنفتح عتبة العنوان في رواية “سماء بلون الشفق” للروائي “إبراهيم أبو حجه” على فضاءٍ متعالٍ ينشحن بسيمياء الخطر، الحمرة /الاشتعال، فيدفع المتلقي إلى حال من الترقب والحذر فيستشرف آفاقًا من المفاجآت المتعددة. 

<strong>صالح السيد<strong>

وإذا كانت الرواية ـ كما يقول جورج لوكاتش ـ هي”سِنّ النُضج”، حيث يواجه الإنسان وحدته وإشكالياته، ليحمل مسئولية نفسه، واختياراته، وقلقه، في الاتصال بين ماضيه ومستقبله، بين ضياعه وخلقه المتجدديْن، فإن هذه  الرواية معنية  بتصوير المسار الجمالي للفرد في بحثه عن مجموع كلي ما، عن تجانس ما، عن هوية يحمل صورتها في أعماق نفسه.

ويعتمد البناء السردي  للرواية على “المونتاج” ويتعدد استخدام تكنيك “الفلاش باك” و كذلك “المنولوج الداخلي” في عرض المحتوى الداخلي أو النفسي للشخصية.

ويقوم التشكيل  السردي على  المقابلة بين صورتين للمدينة – بورسعيد – في زمانيْن مختلفيْن : الأولى في الماضي  لمدينة احترفت النضال وشهدت وقائع أسطورية وأياماً خالدة من البسالة والبطولة تؤكدها  أحداث جليلة في العدوان الثلاثي وحرب الاستنزاف، والأخرى هي في الواقع المناقض؛ حيث مدينة البضائع والعملات النقدية وواجهات المحلات “الفاترينات” اللامعة، التي تجذب الأنظار إلى عالم الموضات ،وهنا يقع السرد في  ثنائية الحضور/الغياب، فالأماكن والشخصيات الحاضرة في النص الروائي تقع في حالة تهميش، أو اغتراب واضح، وهنا يستولي على  شخصية البطل ـ علي عليوه ـ  حنين دائم وجارف إلي الصورة الأولى وجوداً وتاريخاً محفوريْن في أعماقه ومن هنا يظهر هذا الإنسان الذي يحاول توحيد ذاته المتشظية وروحه الغارقة في لُجّة الضياع، وتأتي لحظة خروج البطل  الوحيدة من المدينة إلى القاهرة إبان ثورة يناير ـ وهو الحدث الأعظم في الزمن الحاضر ـ باعتبارها إشراقة أمل واستعادة غالية لتاريخ من الحرية والمقاومة الذي عاش فيه وحلم باسترجاعه. 

الشخصية والمكان :

تتسم لغة السرد في تلك العلاقة بالغنائية والتشكيل الجمالي الشعري، فبطل الرواية “علي عليوه”   كاتب المواليد والوفيات  – وهي مهنة واقعية ذات بعد رمزي –  باعتباره  هذا الشاهد/الرقيب علي تاريخ أبناء المدينة، يظهر دائما في حالة  انغمار نفسي وعاطفي، في معية العشق و التدامج  مع المكان “بورسعيد” ويلجأ الراوي إلى ضمير المٌخاطب الذي يمنحه فرصة مراقبة الشخصية وتأملها في حركتها الدائبة، متداخلاً مع ضمير الغائب الذي يفتح مجالاً للاحتكاك بالشخصية و وصف تفاصيلها وعالمها المترامي .

كما يتسم السرد بالكثافة وينحاز إلي المجازية، ويتحكم الراوي في علاقة الشخصية بالمكان حتى يحقق تناميا سرديا تقوم فيه اللغة بدور كبير لتحقيق هذه الفاعلية الجمالية، و يعكس هذا المشهد شعرية الحالة :    

” تتهيأ بوهج أنفاسك .. وتتخذ سمتًا في الضباب .. تتحرك ثملاً .. تتحسس طلاء الحوائط، فيسقط عنها لونها نضرًا و زاهيا .. تتبدى بيوت الإفرنج بطرازها الأوربي وقد علاها التراب .. ينفخ ويمشي مسحورًا تنعكس علي المرايا المواجهة رغبته في بلوغ الميناء وما إن يبلغ شارع محمد علي آتيا من الجنوب حتي ينعطف شمالاً . الظلمة خافتة كأنها غلالة حلم تحجب الظلال في شوارع تتداخل فوقها بقع الضوء.. شوارع خلت إلاّ منه ، تداخلت بقع الضوء التي تجلت علي رصيف الميناء، نظرها بحب وهو يسير مأخوذًا، توقف وتملّى المنظر حتى دخله المعنى مجتاحًا ومستقرًا .. سأفيق على أمكنة حية ما تزال تتناوشها أسماك العمق، ينتصب في المكان العنبر المشيّد بالطوب الوردي الأملس ، أسيرا مأخوذًا، يجتذبني التراب الممغنط بدم الشهداء “.

  • المدينة والتاريخ المشرق:

تعمل تقنية الاسترجاع على تحويل السرد إلى ذاكرة حاضرة تنبش في ذاكرة قديمة وتتعدد مداراتها بين الفضاء المكاني والفضاء الاجتماعي، ففي الفضاء الاجتماعي ترصد روح المقاومة وحالة الاستنفار التي تلبست الصغار والكبار في الذود عن  المدينة و صدّ العدوان الثلاثي والدفاع عن كرامة الوطن وهو رصد لا يكشف عن حالة الخوف و الجزع الحذر؛ إنما يحتفي بحالة البهجة والسعادة والشعور بالزهو والنشوة :

 “جلسنا على حواف البالوعة الخرسانية فوق الرمل الناعم المجلوب من الشاطئ ورحنا نغني … رفعت أنت الطبق الصاج الذي كان عليك أن تحضر لهم فيه الفول المدمس للعشاء وراحت أصابعك تتدافع عليه فيخرج الإيقاع منتظماً يعلو الرنين (إيدين وبن جوريون وموليه .. جايين يحاربونا على إيه .. هو الكنال دي في أراضيهم) الإيقاع يعلو فتشتعل الحناجر التي أخذت تهدر وراءك  ونحن اندمجنا مع الحالة بالأكف الصغيرة نصفق، فيعلو الإيقاع آتياً من حواف الساحة كان ينزل علينا ليسبح وجودنا تحت وجوم الليل قريبًا من قلوبنا ومن الشرفات التي بدت معلّقة في الفضاء”.

كما يعتمد  الراوي في وصف  الفضاء المكاني  على منظوره الخاص متضافرًا مع منظور الصورة الشعرية والتي تعكس أيضاً  حالة القوة، روح الشجاعة، والبسالة، التي تلبست المكان:   

” كانت كأنها النسور، حطت على الأرض، تنشب مخالبها في الرمل، وتقف موزعة في خطوط متناسقة، تخترمها الساحات، تلك هي عمارات ناصر التي بنيت في بداية ستينيات القرن الماضي ..أخذ يحك عينيه في حوائطها الجهمة عله يجد ما خطته الروح يوم أن غرز سبابته في الرماد وخطّ : الموت للأعداء”

  • المدينة والواقع المناقض :

يتجلى انحياز الراوي القيمي والإيديولوجي من خلال رصد حالة الانتكاسة والتراجع التي أصابت المدينة ومسختها  سواء أكان على المستوى المعنوي أم المادي إذ إن سياسية الانفتاح التي اتبعها السادات، شوّهت وجه المدينة، فانزلقت بها من منعطف إلى آخر  من تاريخ للبطولة والصمود إلي سوق رائجة للبضائع من كل صنف، إنها زيفت التاريخ ومسخت الأفراد  وتاجرت بقيمهم، أو ربما أصبح المال هو قيمتهم الوحيدة :  

 ” ..أين هو الأفضل ؟؟ والأسوأ يجتاح .. يغتصب .. كهذه الموجات التي تتدافع به في نهر الشارع .. كراتين كثيرة متراصة في نهر الشارع، والبضائع بين أيدي اللاهثين تنتقل زائفة وبراقة تتخطف المتهافتين، وقد أتوا من كل حدب وصوب إلي هذه المدينة التي انفتحت بعد القرار الجمهوري الذي أصدره السادات .. ورق البنكنوت يجتاح مخرفشًا .. رنين المال خلاب .. والغالبية يرقصون إلاّ نفسه التي – فجأة –  قالت له: ماذا يعجبك في شارع أصبح لعنة حقيقية .” 

كما يتكرر خطاب الإدانة في صورة أخري علي المستوي المادي الجمالي  حيث فقدت المدينة رونقها وهويتها العمرانية وجمالها الفاتن وانزلقت دون أدنى مقاومة إلى عشوائية صارخة وربما تأتي هذه الحالة نتيجة لتخليها عن دورها ومكانتها  كما يصف الراوي:

” كلهم يتفقدون شوارع خلت مما يدلّهم علي أنفسهم، أبراج شاهقة قامت تعاركت فيما بينها، بعد الحرب لم تزل سوى بيوت قليلة، فقال مسامراً نفسه: نجح السلم في ما لم تنجح فيه الحرب .. وهو تغيير وجه المدينة فها هي الأبراج تناثرت متخللة البيوت الخشبية، ولا غير تقطيبة سؤال تواجههم في جبينه عما كانوا يحلمون به؟! ..”

  • الثورة و حالة الانعتاق :

مع  أحداث ثورة يناير تتبدى حالة الانفتاح المادي والمعنوي للرواية، فعلى المستوى المادي  يتسع المكان ليتجاوز حيز المدينة عبر أماكن أخرى في طريق السفر والعودة ومناطق  مختلفة في القاهرة ومنها ميدان التحرير، كما يظهر البطل وهو المحب للعزلة والفردية وسط حشود غفيرة من الجماهير، بينما على المستوي المعنوي فإن الذاكرة والحلم يتحولان إلي واقع مشهود فهاهي روح المقاومة والحرية ـ التي جسّدتها المدينة ـ  تسري في أرجاء الوطن كله، وهنا تشعر الشخصية بحالة الانعتاق الروحي والنفسي والعاطفي ، ويستجمع الراوي كل قوى التصوير في كاميرته ليصور هذا التحول  الخطير  حيث يتماهى مع الجموع ويتمظهر المشهد تمظهراً تشكيليا وحركياً يبرز عظمة وقداسة هذا الحدث :    

” حشود حول قلبه تضخ دفئًا آتيا من كافة أنحاء مصر جماعات كانت تمشط الشوارع (يا أهالينا يا أهلينا إحنا بنهتف ليكو ولينا) ربما ما تراكم في النفوس من قهر هو ما دفع الناس الي الميدان راح يهجس بذلك وهو منصرف وراء صوته الذي أخذ يهتف مع الهاتفين .. يخرج من داخله حماس يجعله لا يحس برد يناير القارس كانت الحشود تصب في ميدان التحرير الذي شغل فيه مجرد نقطة، تتجمع الجماعات وتسير تهتف بحماس بالغ تمشط شوارع القاهرة التي بدت له مختلفة ذلك اليوم وهو بين الحشد محشور يهتف بحماس بالغ ” . 

ـ______________________________________

الهوامش :

1- د. عبد البديع عبد الله ، الرواية الآن ، ص 75

2- د. أمينة رشيد ، حول بعض قضايا نشأة الرواية : ،مجلة فصول ،المجلد السادس 1986م، ص 99

3 – د. نبيلة إبراهيم ،قص الحداثة   ، مجلة فصول المجلد السادس 1986م  ص 111

4 –د. محمد زيدان   ، السرد والحكاية : ص 117

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version