اقلب الورقة .. اقلب الورقة … هذه هي النظريّة الجديدة التي طلع بها علينا رئيس الجمهوريّة في قراءة الأرقام بعد الانتخابات الأخيرة التي كان الرئيس يعوّل على ارتفاع نسبة المشاركة فيها ليرسي البرلمان الذي يريد ، فلمّا لم يتجاوز عدد المصوّتين نسبة 11% من عدد النّاخبين عاد ليقول بأنّ النّاس فقدوا الثقة في البرلمان و في تمثيليّة النواب ، حتى لا يقول بأنّ المواطنين كرهوا الواقع السّياسيّ العام الذي يعيشونه وحتى لا يقرّ بأنهم بدؤوا يشعرون بفشله في إدارة البلاد و ما تراجع نسبة الثقة فيه في سبر الآراء الأخير- لأوّل مرّة منذ انتخابه – إلى ما دون الخمسين في المائة إلا دليل على ذلك …
و قد بدأ الرئيس يشعر بصعوبة تحقيق مشروعه وبتآكل رصيده من الثقة و ليست خطاباته المتشنّجة في الأسبوع الماضي من القصبة و ثكنة العوينة والطريق السيارة إلا نوع من المكابرة و مواصلة لسياسة الهروب إلى الأمام و فرض الأمر الواقع وعسكرة الدولة و البحث عن الصدام مع كل الأطراف التي دعته إلى الحوار و أعلنت عن مبادراتها السياسية للخروج بالبلاد من الأزمة الاقتصادية التي تردّت فيها و على رأسها اتحاد الشغل الذي كان أبرز المساندين لما يسمونه بلحظة 25 جويلية … و لكن لمّا وجدت قيادته نفسها خارج دائرة الحكم و خارج حسابات الرئيس و لما وجدت أنّ الرئيس ماض مع حكومته في تنفيذ اتفاق صندوق النّقد الدّولي شعر أهل الاتحاد بخطورة الوضع و عادوا ليقدّموا مبادرات حلول من داخل مسار وتصوّرات 25 جويلية نفسه.
و رغم ذلك لم يتفاعل الرئيس مع مبادرة الاتحاد و من معه ، بل أكثر من ذلك شنّ عليهم الحرب بتعيين أحد خصوم الطبوبي من المنشقين عن الاتحاد على رأس وزارة التربية، و عبّر في خطابه في ثكنة العوينة عن رفضه للدور السياسي الذي يريد أن يلعبه الاتحاد، و دعاه إلى الاكتفاء بوظيفته النّقابية ليقع في ليلتها مباشرة إيقاف الكاتب العام لنقابات الطرقات السّيّارة ، الأمر الذي دعا الاتحاد إلى عقد هيئة إداريّة طارئة ليعبّر فيها – و إن بصورة مهادنة – عن رفضه لمثل هذه التّصرّفات و الإملاءات .. و هو ما يجعل المعركة بين الطرفين مهيّأة لمزيد التطوّر و التعقّد ..
إنّ حرب ليّ الذراع بين الرئيس و الاتحاد لن تقود البلاد إلا نحو مزيد من الدمار والخسران و لن تزيد الشعب إلا نقمة على كلّ الأطراف، فكل المعارك فاشلة خاسرة مادامت غايتها إنقاذ المواقع و الكراسي و مادام كل طرف لا يهتم إلا بصورته وبمصلحته الذاتية قبل مصلحة البلاد …
إنّ مجالات المناورة عند الطرفين ضعيفة و كلاهما يحاول حشد أنصاره رغم أنّ كليهما خسر جزءا كبيرا من المساندين. الأول الرئيس بسبب فشله في تحقيق الرفاه الاقتصادي و في توفير المواد الأساسية للمواطن الذي لا تعنيه مقاربات الرئيس و بناؤه القاعدي و شركاته الأهلية و لا حتى دستوره و انتخاباته (و قد أثبتت نسب المشاركة ذلك) بقدر ما يعنيه تدهور طاقته الشرائية و قلقه على مستقبل أبنائه و معاناته اليومية من وسائل النّقل، و من صفوف الحليب والسكر و الزيت و القهوة، و من تأخّر مواعيد العلاج و تضخّم فواتير الماء والكهرباء ….
و الثاني أي الاتحاد خسر جزءا من منخرطيه و المؤمنين بدوره بعد توافقات العشرية الماضية والانخراط في اللعبة السياسية و بسبب الانقسامات التي شقته قبل و بعد مؤتمر سوسة الأخير، وإضافة إلى حملات التشويه التي طالت عددا من قياداته …
كلاهما يلعب منقوصا من جزء كبير من عافيته و تعافيه و كلاهما يدرك أن فرصته في الحياة والمواصلة رهينة ما ستفرز عنه هذه المرحلة. و قد نسي كلاهما أنّهما قد يكونان أوّل المكتوين بنار هذا الصراع و أنّهما قد يعرّضان البلاد لأزمة أكبر مما تعيشه اليوم …
إن البلاد لم تعد تتحمل هذا التقسيم و لا الخطابات الحاقدة التي تؤجج نار الفتنة بين أبناء الشعب، فالمرحلة صعبة و العزلة الدولية تتعاظم و التصنيفات الاقتصادية السلبية تتواتر، و بدل البحث عن حلول جماعية للبلاد تتزايد التجاذبات و تتفاقم.
و في الأثناء يبشرنا سبر الآراء يوم أمس بصعود كادوريم بعد سعيّد في سباق الرئاسيّات فيغضب بعضنا من هذه الأرقام و يشكك بعضنا في نوايا الزرقوني ونزاهته و يتندّر بعضنا الآخر بالأمر و يسخر منه، و جميعنا ينسى أو يتناسى أن هذا النّوع من سبر الآراء هو نفسه الذي بشرنا سابقا بتصدّر قيس سعيد لكل الإحصائيات منذ 2018 و لكننا تجاهلناه و لم نصدقه… فلمَ الاستغراب من صعود نجم كادوريم و قدرته على نيل ثقة جزء من التونسيين فنحن شعب عاطفي انفعالي يصفق لكل من يدغدغ مشاعره سواء بخطب رنانة و كلمات عويصة متقعرة، أو بمساعدات عينيّة و مادّية من نوع فلوس سليم الرياحي ومقرونة نبيل القروي و علالش كادوريم الذي استثمر مثل من سبقوه في مآسي الناس وفقرهم وجهلهم؟ ..
إنّ الجهل و السّذاجة و انعدام الوعي بالواقع من ناحية و الفقر و صعوبة الحياة والعيش تحت خط الفقر من ناحية أخرى، لا يمكن أن تولّد لنا سوى هده الظواهر خاصّة مع انعدام الثقة في كلّ السياسيين الذين مازالوا يكابرون و يعاندون و لم يفهموا إلى اليوم نفور الشعب منهم و من نوعيّة خطابهم، و مازالوا عاجزين عن تقديم بديل قادر على نيل ثقة الشعب.
هذه الأرقام فيها تحذير من القادم و كأننا نخيّر من جديد بين الطاعون و الكوليرا أو كأنّها تقول لنا بلغتنا العامّية بوس اللفعة و إلا طيح في البير… فصعود مثل هذه الأسماء لا يعني سوى فشلنا جميعا سلطة و معارضة و طبقة حاكمة سابقة و إعلاما و مثقفين … في بناء وعي التونسي وعجزنا عن تقديم الصورة الحقيقية للديموقراطية … و لكن فيه هذه الأرقام أيضا دعوة إلى الوطنيين من ذوي الكفاءة ممّن يجلسون على الرّبوة و يتهرّبون من الخوض في الشّأن العام، إلى الاقتراب من النّاس و دخول غمار السّياسة ” الحقيقيّة ” و إرساء قيم الديموقراطيّة الفعليّة و إعادة ثقة النّاس في السياسة و السياسيين للخروج من هذه الوضعيّة المتأزّمة التي نتردّى فيها اليوم ..