وسط صخب الاحتفالات التى جرت فى باريس بمائوية الحرب العالمية الأولى والتغطيات الصحفية الموسعة التى صاحبتها “التى جرت منذ ثلاث سنوات” لم نلتفت بما هو واجب، ولا بأي قدر، إلى ما خلفته فى بلادنا من آثار وتداعيات عميقة وممتدة حتى اليوم.
لم تكن مصر طرفاً فى المواجهات العسكرية، أو أحد ميادينها، ولا تجرعت الآلام الهائلة التى شهدتها تقتيلاً وتخريباً، لكنها بدت مع عالمها العربى ميداناً سياسياً لصفقات مميتة استبقت نهايتها .
في نوفمبر (1918) جرى العمل على تقسيم العالم العربى وتفكيك قدراته ومنع أية فرصة ممكنة لتوحيده ـ اتفاقية “سايكس بيكو” (1916).
وجرى العمل على بناء وطن قومي لليهود فى فلسطين يتغول على حقوق أهلها ويعزل مصر عن المشرق العربي ـ وعد وزير الخارجية البريطانى “آرثر جيمس بلفور” (1917).
كانت الإمبراطورية العثمانية توشك على السقوط النهائي والصفقات الكبرى تسعى ـ قبل نهاية الحرب ـ لوراثة الرجل المريض.
كان العالم العربي مصيره ومستقبله موضوع الميراث.
دون أن تكون مصر على دراية بما يخطط فى الكواليس الدبلوماسية الدولية لمستقبل المنطقة ـ اندلعت فيها بعد أربعة أشهر من نهاية الحرب العالمية الأولى ثورة شعبية وضعت قضية جلاء قوات الاحتلال البريطانية على مسار تاريخي جديد.
كانت الحركة الوطنية بزعامة “مصطفى كامل” تمهيداً تاريخياً لا شك فيه لثورة (1919)، بزعامة “سعد زغلول”.
تلخص عبارة بليغة لـ”مصطفى كامل”: “من يفرط فى حقوق بلاده ولو لمرة واحدة فى حياته يبقى أبد الدهر مزعزع العقيدة سقيم الوجدان”، روحاً جديدة ولدت من تحت ركام هزيمة الثورة العرابية التى أفضت إلى الاحتلال البريطاني لمصر عام (1882)، غير أن فعل ثورة (1919) جاء استجابة لحقائق ما بعد الحرب العالمية الأولى.
لا كانت مصادفة سياسة أن يطلب المصريون جلاء قوات الاحتلال البريطانية بأثر مبدأ حق تقرير المصير الذى أعلنه الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون”، أو أن يسعوا للمشاركة فى مؤتمر الصلح الدولي بباريس.
ولا كانت مصادفة توقيت أن يقود “سعد زغلول” بعد يومين من انتهاء الحرب وفداً قابل المعتمد البريطاني للحصول على تصريح بالسفر جوبه بالرفض متسائلاً عمن فوضهم التفاوض باسم المصريين.
هكذا نشأت فكرة التوكيلات الشعبية ونشأ حزب “الوفد”.
لم يكن تعبير الاستقلال سائداً قبل ثورة (1919) حيث هيمنت الفكرة “العثمانية” على الخطاب السياسى المطالب بالجلاء.
بتقوّض الإمبراطورية العثمانية انفسح المجال لشعار “مصر للمصريين”، أو أن تكون دولة مستقلة لا ولاية تتبع الباب العالي.
لا يليق بأى منطق تاريخى أن يقال إن “سعد زغلول” سرق الثورة من الحزب الوطني حزب “مصطفى كامل” وخليفته “محمد فريد”.
الأدعى أن نناقش لماذا أخفق الحزب الوطني فى قيادة مصر ـ بعد “مصطفى كامل” ـ إلى الثورة التى كانت بشائرها فى الأفق؟
ـ هل لأن “محمد فريد” خليفة “مصطفى كامل”، وهو زعيم وطني مستنير وقيمته الأساسية فى قوته الأخلاقية، قد غادر إلى ألمانيا هروباً من حملات الاعتقال، أم لأن الحزب الوطني نفسه لم يكن مهيأ بطبيعة أفكاره وبرامجه، لأن يقود ثورة تبلورت دواعيها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ونداءات حق تقرير المصير وتقوض الإمبراطورية العثمانية؟!
ثورة “يوليو” تعرضت لاتهام من نفس النوع بأنها سرقت الثورة من الشيوعيين، أو من الإخوان المسلمين، وهو كلام مرسل لا يسنده دليل وتعوزه الأسباب الحقيقية لصعود تيارات وقيادات بعينها وإخفاق أخرى.
ثم إنه لا يمكن إنكار حجم شعبية “سعد زغلول” وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخي فى سياق مفاهيم العصر، فأغلب الانتقادات التى تعرض لها تنصب على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها، وقد تمكن بقدراته السياسية والخطابية أن يعبر عن الثورة، وأن يكون رمزها الأكبر.
عندما أخفقت ثورة (1919) فى أن تحقق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور، فالأول أجهض عملياً والثاني جرى الانقلاب عليه، بدأت مصر تنتفض من جديد.
فى عام (1935) خرجت مظاهرات حاشدة تحتج على تصريح بريطاني بأن مصر لا يصلح لها دستور (1923) ولا دستور (1930).
فى هذه المظاهرات تواصل عطاء الدم المصري.
وفى عام (1946) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى، من أجل مطلب الاستقلال، أفضت إلى شهداء جدد من بينهم (23) شهيداً فى ميدان “الإسماعيلية”، وهو ذاته الميدان المعروف الآن باسم “التحرير”، وأصيب فى هذه الموقعة (121) جريحاً. بعد أيام فى الإسكندرية سقط (28) شهيداً و(342) جريحا..
المدينة ذاتها قدمت شهداء آخرين فى ثورة يناير.
كانت تلك التضحيات إيذاناً بميلاد جيل جديد، وهو واحد من أهم الأجيال فى تاريخ مصر المعاصرة، حمل السلاح في منطقة قناة السويس ضد قوات الاحتلال، ساهم فى تطوير الخريطة الفكرية والسياسية، وقام بثورة جديدة فى “يوليو” (1952) كان فى طليعتها هذه المرة تنظيم “الضباط الأحرار”، وهي واحدة من أعظم الثورات المصرية وأبعدها تأثيراً.
جاء “الضباط الأحرار” من داخل سياق جيل (1946) وأفضت حرب فلسطين (1948) إلى إعلان القطيعة مع النظام الملكي بكل مقوماته وقصوره.
أخذ جيل (1946) وقته فى إنضاج أفكاره وخياراته، التى تمردت على السياسات التقليدية، بعد أن وصلت إلى حائط مسدود فى طلب الاستقلال بالمفاوضات.
شاعت داخله التوجهات الاشتراكية، وخرجت المرأة بصورة غير مألوفة للعمل الوطني، وبدا أن مصر على موعد مع تغيير يعصف بقواعد اللعبة المستهلكة ـ وهو ما حدث بعد ست سنوات فى “يوليو” (1952).
كانت ثورة “يوليو” بنت الحرب العالمية الثانية ونداءات الاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي بذات قدر ما كانت ثورة (1919) بنت الحرب العالمية الأولى ونداءات الاستقلال والدستور.
لا يمكن قراءة التاريخ المصري وأحداثه الكبرى بعيداً عما يحدث فى العالم من صراعات على القوة والنفوذ.
لتفاعلات الداخل كلمتها الرئيسية غير أنها تأخذ مداها عندما تتغير البيئة الدولية، كأنها طلقة فى الهواء تنبئ بتغيير كبير مقبل.
هذه حقيقة تاريخية تثبتها تجربة حربين عالميتين وثورتين مصريتين.