لليوم الثاني على التوالي يعترضني أمر غريب ومريب…الأول رجل في ريعان شبابه يتحدث مع نفسه…كنت أظنّ أنه يضع سماعة في أذنيه ويتحدث بالهاتف لكن تأكدت من الأمر ولم يكن كذلك…والثاني كهل في الخمسين يتحدث أيضا لنفسه ويصرخ في وجه نفسه…
هكذا أعاد القدر المشهد أمامي مرتين وفي يومين مختلفين وكأنه يقول لي هنا تكمن المأساة…هنا موطن الوجع…فما هذا الذي يحدث في تونس…وما الذي يعيشه هذا الشعب؟؟ هل نالت منّا الأزمة إلى هذا الحدّ وأصبحنا نتنقّل من مأساة إلى مأساة؟ ومن معاناة إلى أخرى؟ هل هو قدر هذا الشعب منذ 2011 أم ماذا؟ هل قدر هذا الشعب أن يغرق إلى هذا الحدّ على يد أبنائه وأهله؟ ما الذي يحدث في البلاد يا من تحكمون البلاد؟ هل أنتم على بينة مما يجري ومن معاناة ومأساة اغلب هذا الشعب أم لا تعلمون؟ إن كنتم على بينة فاين حلولكم التي وعدتم؟ وإن كنتم لا تعلمون فتلك مصيبة أكبر…وهنا وجب أن اسأل، هل من غادروا البلاد هربا بحرا لا يأبهون بما قد يقع لهم هربوا من هذا المصير الذي شاهدته مرتين في يومين مختلفين؟ هل هرب شباب البلاد وكهولها بحثا عن النجاة بأنفسهم من العته والجنون؟ ما الذي فعلوه بهذه الأرض الطيبة حتى يهجرها أهلها ويخيروا الموت غرقا على البقاء فريسة لليأس والإحباط والجنون فيها؟
هل أنجز كل من تداولوا على حكم هذه القطعة من الأرض ما وعدوا به شعبها المغلوب على أمره؟ هل نجحت بدائلهم التي لطالما صرخوا بها وتفاخروا في إخراج البلاد من الوحل الذي أوقعوها فيه؟ والسؤال الأهم والأخطر هل كنّا حقّا بالسوء الذي يجبرنا على هدم كل البناء الذي عانينا وعانى أهلنا وأجدادنا الكثير لبنائه وتشييده؟ ألم يكن الإصلاح حلاّ يقينا كل هذا الخراب؟ ماذا كسبنا؟ ماذا حققنا أكثر مما تمّ تحقيقه من طرف كل من حكموا البلاد قبلنا؟ هل أنجزنا منجزا واحدا يغفر لنا فشلنا في إخراج البلاد من مأساتها وتسكين أوجاعها؟ لا شيء…غير ارتفاع كل النسب الموجعة…نسبة الحقد فاقت نسبة الكريات الحمراء في دم الانسان…نسبة الفقر…نسبة البطالة…نسبة الأمية…نسبة مرضي العقل…نسبة الجرائم…نسبة مرضى السكري…نسبة العاجزين عن الحركة…نسبة العجز…نسبة التضخم…نسبة الخراب…نسبة الهاربين من جحيم المأساة والإحباط واليأس… نسبة الفشل في كل القطاعات…نسبة التداين الداخلي والخارجي…
كانوا يقولون ويفاخرون بأن دهر الوجع قاب قوسين أو أقل من الزوال…فإذا بدهر أكثر وجعا من الذي كان يدق الباب ويدخل دون استئذان…هل نحن حقّا واعون بما نحن فيه ام غلب وطغى تصفيق البعض على صراخ ووجع الأغلبية؟ اين نحن من ذلك الشعب المتآزر والمتضامن والمتحاب نسبيا؟ هل حقّا هذا ما نريده بهذه البلاد وشعبها أم هو الهروب إلى الأمام خوفا من تبعات ما فشلنا في تحقيقه؟
بلادنا مرّت بكل الحالات والأوجاع والنجاحات والأزمات، ولم تتوقف على جماعة أو دولة أو قبيلة…مرّت بالفقر المدقع…وعرفت الغنى الفاحش والقوّة والاستبداد…وعاشت الوجع والأمراض والأوبئة…وعاش شعبها المجاعة في العديد من الأزمنة والعهود…بلادنا تداول على حكمها الكثير من الأجناس والهويات والأعراق والدول…وعرفت الكثير من الديانات…وسكنها من أهلها وغير أهلها…وغزاها الكثير من جيوش العالم ومن شعوب المتوسط وغيرهم من شعوب العالم…لكنها لم تمرّ بما نحن فيه اليوم…فاليوم التقى عليها ثلاثي الخراب…الحقد والفقر والجفاف فكانوا العنوان الأبرز للسنوات العجاف…فالحقد هو اشدّ الأوبئة خطرا على الشعوب…فهل يعي اليوم من يحكم هذه البلاد أن الحقد هو أخطر مكونات الخراب على البلاد والعباد؟
على من يحكم البلاد اليوم أن يستمع أيضا إلى صوت العقل…الصوت الذي لا يبحث عن مكان تحت شمس السلطة والحكم بل يبحث عن إخراج البلاد مما هي فيه…فإخراج البلاد لا يكون أبدا بنشر الأحقاد…بل بمحاربتها…ولا يكون بالقطيعة بين الماضي والحاضر والمستقبل…الشعب محبط…وغلبه اليأس والخوف…الخوف من مصير لا احد يعلمه…والخوف من أن يأخذه الحقد إلى ما لا يريده ويتمناه…فالخطأ الذي وقعنا فيه اليوم هو أننا أردنا استعادة الدولة بنشر الحقد والتخلّص من كل الماضي ونسينا ان جميعنا من الماضي وأغلبنا من الحاضر وفلذات أكبادنا هي المستقبل…فاليوم لم يعد يجمع بين التونسيين غير نشيدهم الرسمي والعلم أحيانا…فشباب البلاد هرب بحرا بحثا عن وطن آخر وعلم آخر ونشيد رسمي لا يحفظه…وبعض كهولنا ومن فرط احباطهم وكآبتهم سلكوا نفس الطريق فغامروا بحرا بحثا عن حضن يسكّن أوجاعهم…فمن بقي بهذه البلاد يحميها ويسكن أوجاعها وينهي مأساتها…من؟؟
هل بهذه الحالة المعقّدة من الانقسام سنصلح حال البلاد…والعباد…وعلينا أن نختار بين صوت العقل…وأصوات الحقد…من هو أصلح للبلد…؟؟