عامر صديقي – الاسم مستعار طبعًا – كان يملك تلك الطلعة الوقور الموحية بالثقة. حتى ونحن طلاب كان مهيبًا له نظرة هادئة راضية تشع بالحكمة وفهم الكون. لا أعتقد أنني رأيته في أي لحظة من حياتي من دون شعر شائب، خاصة شعر الفودين الذي يذكرك بشيب «جمال عبد الناصر». لابد أنه ولد شائب الشعر. بينما كنا نحن الصبية المراهقين نبدو كذلك بالضبط: صبية مراهقون شديدو الخفة والسخف.
كان عامر يدخل أي امتحان شفهي، فينبهر به الأستاذ على الفور ويكتفي ببعض الأسئلة السطحية ثم يشكره ويصرفه، بينما نفس الأستاذ كان يؤمن أن باقي الطلبة أوغاد شديدو الرقاعة يجب أن يعاقبوا بغلظة. وكانت الفتيات يؤمن أنه وسيم موح بالثقة ويحُمن من حوله بلا توقف لكنهن لا يجرؤن على الاقتراب من ينبوع الحكمة هذا.
على أن عامرًا كان إذا تركت له فرصة الكلام والاسترسال فيه يكشف عن أحمق حقيقي مسطح الآراء من طراز (النفوس تغيرت – التلفزيون يعرض مسلسلات عارية).. حمار حقيقي جدير بمقولة «آن للشافعي أن يمد رجليه». لكن برغم هذا لم نكن نمد أرجلنا في حضرته، فقد ظل موحيًا بالثقة حتى بعد كل هذا الكلام الفارغ.عامر كان ُيستدعى لفحص الجيران منذ كان في السنوات الأولى من الكلية، وكانت له نظريات خاصة مدمرة؛ منها أن أي غيبوبة هي نتيجة لنقص البوتاسيوم وأي تفاعل حساسية يحتاج لحقنة أدرينالين. عالج الكثيرين جدًا منذ كان طالبًا لا يعرف اسم عقار واحد، ومن الغريب أن المرضى كانوا يشفون من تلقاء أنفسهم.
في سنة الامتياز كنت أسهر وحدي في استقبال الطوارئ، وقد قمت بإدخال حالة لمريضة مصابة باشتباه التهاب في الزائدة الدودية .. الطبيب المقيم قال هذا وطلب أن نلاحظها، لكن المريضة كانت هستيرية وأهلها مجانين.. كانت تصرخ في فراشها طيلة الوقت وتقول تعبيرات أدبية رائعة على غرار (أنا قلبي شجرة بيقطعوا جدورها – أنا بطني خراج مفتوح) وهي تعبيرات تكفل لي جائزة نوبل في الأدب لو كنت قد دونتها. مع كل شكوى منها يهرع أحد أقاربها إلى غرفتي ليصارحني بأن المستشفيات مكان قذر، وأنا لا أصلح طبيبًا.. إلخ… المشكلة أنها بالفعل كانت قد تلقت أفضل علاج ممكن.
تصادف أن وصل صديقي عامر، وهو كعادته وقور موح بالثقة يلبس بدلة كاملة.. فتوسلت له أن يلعب دور طبيب أكبر سنًا ويفحص هذه المريضة ويطمئن أهلها. هذا ما فعله بالضبط.. دخل العنبر فتفرق أهلها من حول الفراش وساد صمت رهيب. وقفت جواره متظاهرًا بالذل.. هذا هو الأستاذ الكبير الذي سيقول كلمته الأخيرة. ظلت المريضة تنظر له في رهبة فتحسس نبضها وهز رأسه، ثم قال في ثقة:
“أنت أفضل حالاً.. لكن لابد من الانتظار قليلاً. فقط أرجو ألا تزعجوا د. أحمد فهذا يجعله متوترًا، والمتوترون يرتكبون أخطاء”
كساحر جاء من لا مكان ترك الفراش وأنا أتبعه في رعب وتوقير متذكرًا كل حرف في كتاب (فن صناعة النجم) الذي يشرح لك كيف تجعل من شخص ما محط الاهتمام. وخارج العنبر وقف يرد على أسئلة أهلها المتلاحقة. أهلها الذين تجاهلوني تمامًا وحالهم يقول: لماذا لا يجلس هؤلاء الأطباء العظام في الاستقبال ويفحصون الحالات بدلاً من المعتوهين الذين نقابلهم؟ وعندما انفردت وعامر في غرفة الاستقبال أطلقنا الضحكات المكتومة. وهكذا مرت الليلة كلها دون أن تصرخ المريضة أو يضايقني أهلها. وفي الصباح تبين أنها غير مصابة بشيء.
بالطبع لك أن تتوقع أن عامرًا افتتح عيادة صغيرة في أحد أحياء المدينة، ونال وظيفة بالجامعة. كانت عيادته مزدحمة دائمًا برغم أن قدراته الطبية لا تتجاوز قدرات طالب طب. وقد زود العيادة بنظام ملفات إلكتروني بسيط، فصار بالنسبة للمرضى الطبيب الذي يفحصهم بالكمبيوتر.
قرأت فيما بعد تعبير «Parvenu» الذي يعني الشخص الذي يبدو على غير حقيقته.. الأستاذ الجامعي الذي يملك حشدًا من الشهادات دون أن يفقه شيئًا. خطر لي أن هذا المصطلح خلق من أجل عامر. هناك كذلك تعبير «Halo effect»، تأثير الهالة.. الشعر الأبيض المحيط برأسه كهالة يقنع المرضى والباحثين المنافسين.
تأكدت من تأثير الهالة عندما كان يدخل امتحانات الترقية، فلا يسألونه تقريبًا.. غالبًا يتبادلون معه عبارات المزاح ثم يرقونه… في إحدى المرات لم يكن لديهم وقت كاف فقاموا بترقيته. ثم إن صاحبنا سافر للخليج.
توقعت له أن يعود مضروبًا بالأحذية، لكني توصلت إلى أنه يملك خليطًا من تأثير الهالة ومن الحظ المخيف.. يقضي في الخليج خمسة أعوام وهو لا يفقه شيئًا، وبرغم هذا هم يحبونه. ويرسل لي صورًا وسط أصدقاء يلبسون الغطرة والجلباب يعانقونه في مرح. ثم يرجونه بحرارة أن يبقى معهم للأبد لكنه يعتذر لأن مستقبله في الجامعة ينتظره. هكذا عاد من هناك حمارًا ثريًا ينظر له المجتمع بتوقير وإجلال.
هكذا في سن الأربعين توصلت إلى أن سر النجاح في الحياة ليس أن تكون بل أن تبدو.. وعليك أن تمتلك حظًا مذهلاً يشبه حظ الجندي الذي سقطت قنبلة في حجره ولم تنفجر، وفهمت مشاعر البطة دونالد – أو بطوط – تجاه ابن عمها المحظوظ المستفز.
لكن عامرًا أصر في ذلك الوقت – لدى عودته من الخليج – على أن يهاجر لكندا، وقد نصحته مرارًا أن يبقى بقدراته المتواضعة هذه، لكنه أصر. قلت لنفسي إن حظه الجبار وتأثير الهالة لن يخذلاه أبدًا.
بعد أعوام سمعت أنه متورط في كارثة.. يبدو أن نظام التأمين لم يخدمه أو شيئًا من هذا القبيل، وهو قد تسبب في عاهة مستديمة لمريض.
قلت لنفسي إن الدروس المستفادة هي أن الحظ الحسن لا يجب أن يظل حسنًا للأبد، وتأثير الهالة ليس فعالاً دائمًا خاصة في بلاد متحضرة متقدمة.
هناك لحظة ينكشف فيها كل شيء، وعندها ينهار كل شيء فلا تلومن إلا نفسك. على من لا يملك خوذة فولاذية أن يبقي رأسه تحت الأعشاب