ترييف المُدن ومهْننة التعليم العالي في تونس… وجهان لقُصور واحد (الوجه الأول)
نشرت
قبل 7 أشهر
في
يبدو لي أننا شعبٌ عنيد ومُعتدّ بنفسه أكثر من اللزوم وبشكل أعرج لأننا ننفتح على العالم ومُنجزاته الحداثية، لكننا نسعى دائما إلى توْنستها وبدلا من إنضاجها وإكسابها طابعا محليّا يجعلها منسجمة مع خصوصياتنا ومُستجيبة لواقعنا المتفرّد، نلوي عنقها ونُرقّع آليات اشتغالها الأصلية فتضحى عناصر مُشوّهة ومُعتلّة في مشهد عام ينتظر تحوّلات كبرى تأبى أن تولد في ديارنا (ولنا في تصميم مدننا التونسية وهندسة التعليم العالي في جامعاتنا خير تجسيم لهذا التوجه ! )
فمن ناحية أولى، أعتقد أنه حتى تكون المدينةُ مدينةً لابدّ من تشكّلها كفضاءٍ مجاليّ يقوم على صروح معمارية ثابتة وبِنية تحتية تستجيب للكثافة السكانية ومتطلباتها وشبكة منظمة ومنسجمة ومتكاملة من الخدمات المختلفة والأنشطة الاقتصادية والصناعية والثقافية والفضاءات الخضراء والشعور بالأمان وشبكات النقل المتطورة… ولكن عند محاولة قيس إلى أي مدى توصّلنا في بلادنا إلى تشييد مُدن تستجيب إلى الحدّ الأدنى من هذه المواصفات العامة هيكليا وعلائقيا، نصطدم بكون مدننا مازالت جنينيّة لم تستكمل نموّها كهويّات ثقافية ومجالية حضرية تُحاكي الأرياف في اخضرار فضاءاتها ونقاوة هوائها وسيلان الحركة فيها ولا تستجلب – كما هو الحال اليوم – عدم الانتظام العمراني وفوضى المرور وأتربة المسالك وتداخل العلاقات… فنسقط في ترييف مدننا بدلا من تمدين أريافنا.
ومن ناحية أخرى، ألاحظ في المقابل أن هناك نوعا من الشّبه بين واقع مُدننا المُريّفة وتعليمنا العالي الذي توغّل – خاصة مع حُلول منظومة إمد – في مهْننة مسالك التعليم الجامعي والإحلال التعسفي لتفريعات “تطبيقية” كانت الغاية المُعلنة من وراء إقرارها ربط التكوين بمقتضيات سوق الشغل ومُحاولة تطويق ظاهرة بطالة أصحاب الشهائد العليا، فكان ذلك على حساب الغائيات الأساسية لبعث الجامعات وهي تعميق المعارف العامة وتطوير البحث والتجديد وإكساب المهارات النظرية والتطبيقية العليا، كجُسور يعبُر من خلالها الخرّيجون نحو المؤسسات المُشغلة باشتراطاتها ومتطلباتها وأسرار الانتداب فيها.
سأحاول في هذه الورقة إعطاء بعض الأمثلة الملموسة عن هذا وذاك لتبيان أن هذه “الانحرافات” جعلتنا نقف في منتصف الطريق (كمن ضلّ مساره فتسمّر مكانه ولم يعد يقدر على مزيد التقدّم نحو أهدافه المنشودة) غير مُدركين لأسباب تجاوز هذا المأزق الذي خسرنا بموجبه أريافا ولم نربح مُدُنا، وأضعفنا تكوينا مهنيا ولم نكسب تعليما جامعيا راقيا بمواصفات حديثة (في جزء كبير منه على الأقل).
في مظاهر ترييف المدينة
البحث في مؤشرات الحياة الحضرية بطعم ريفي في أشباه مُدننا لا يتطلب مجهودا استثنائيا لأنه لا وجود لمسافة أو قطيعة حقيقية بين الفضاءين لا من حيث الوقت المُستغرق للمرور من وسط المدينة إلى عمق الريف، ولا من حيث تقاليد الأكل واللبس وممارسة الثقافة، وكذلك تقاليد العناية الرقابية المركّزة التي يُوليها الناس لشؤون وبُطون بعضهم البعض.
وقد أختزل هذا الواقع في العناصر التالية :
تكاد أمثلة التهيئة العمرانية (إن وُجدت) تخضع إلى إكراهات فوضى البناء الذي أتى على الأخضر واليابس. فتمّ السطو على مجاري الأودية ونهش الملك العمومي برّا وبحرا والسطو على الأرصفة وحتى على أجزاء كبرى من الأسوار التاريخية التي تُسيّج المدن العتيقة في بعض الجهات. فلا ضوابط ولا محاذير ولا قواعد واضحة يلتزم بها المتساكنون لتضمن ما يشكّل الهوية الصّلبة للمدن العصرية من جمالية وانسجام عمراني وانسياب مروري وصيانة حقوق المارّة والمُشاة والأجوار والمُتنزّهين والمتأمّلين لواجهات المباني وأخاديد المعالم القديمة للفوز بنصيب من الماضي وإحياء تاريخ الأجداد فينا. ففي مدننا بصورة عامة، تجد شارعا كبيرا واحدا يتوفّر على ما يُشبه الاستقامة والاستجابة لمعايير حسن تنظيم الفضاء، ولكن حالما تغادره في اتجاه الأنهج الخلفية والمسالك الفرعية حتى يعمّ اللانظام والمُلتويات والمضائق الشبيهة بالممرات الغابيّة وروْثُ ذوي الحوافر والكلاب السائبة وكل ملامح البادية، في “استقالة تامة للفكر الحضري داخل المدن” كما يقول الجامعي الجزائري ميلود فروج.
ريفيّة مُدُننا تبرز أيضا من خلال نمط السياقة الذي يتوخّاه التونسيون حيث يتصرف أغلبهم على نحو يشبه إلى حدّ كبير كمن يركض على صهوة جواد، وفق عقلية بدويّة تقوم على مبادئ “أركض يا لشهب” و “جيبو تره يا لدرع” و “الرخ لا” و “عائد بإذن الله” و “حوتة وخُمسة وڨرن غزال” و”بسم الله مرساها ومجراها” و” نورمال مْرا تسوق معطلة حركة المرور”… إضافة إلى سلوك المترجّلين الذين لا يلتفتون لا يمينا ولا شمالا لأنهم يستبطنون كونهم يتمشّون وسط الحقول الرّحبة والمراعي الخصبة.
أما علائقيا، فالجميع يعرف الجميع والتسلّل إلى حيوات الناس وخصوصياتهم مهارةٌ مشتركة يتقاسمها كل المتساكنين، وأخبار الحمْل وانقطاع الشّمل يتهامس بها المتابعون بحرص نادر، ويتشكّل في كل مقهى ما يُشبه المجلس (أو ما يُسمّى بالمُنْت في بعض جهاتنا التونسية) المتكوّن من بعض الأفراد المتجانسين من حيث السنّ والوضع الاجتماعي والملمح النفسي والشخصي، تتمثّل مهمّته المركزية اليومية في مواكبة أخبار المدينة وتعقّب كل كبيرة وصغيرة (تماما كما يفعل الأجوار في حانوت عمّ لزعر لندوشين) وفق عقلية اقتحامية تحشر أنفها في أدقّ تفاصيل حياة الناس وحميميّتهم.
ومن مظاهر البداوة التي تلتحفُ بها مُدننا القرويّة أيضا أن قيمة الوجبات الغذائية لا تُقاس بجودة مكوّناتها ورِفعة تهذيبها بقدر ما تُقيَّم وفق قدرتها على الإشباع وحجم قطعة اللّحم التي تعتلي عرش الكسكسي الأسبوعي، وأن “منسوب الارتياح العائلي” لا يستقيم له حالٌ إلا متى تجاوز الاحتياطي الغذائي لكل بيت من زيوت وعجائن وبهارات بأنواعها ومُصبّرات ومُملّحات ومُخلّلات، حدّه الأقصى المطلوب وكأن حروبا على الأبواب أو مجاعات يتعيّن أن نقرأ لها حساب. (تماما مثل الاحتياطي الوطني من العملة الصعبة وما يعادله من أيام توريد)…
أختم بهذه المقولة المعبّرة جدا عن ظاهرة ترييف المدن في منطقتنا العربية لأستاذ علم الاجتماع المصري الدكتور أحمد زايد، إذ يقول “… ثمة مظاهر عديدة تكشف وجود هذه الحالة. من أول هذه المظاهر العلاقة غير المتوازنة مع المكان الحضرى، كالشوارع أو الأماكن العامة، فهذه الأماكن يتم التعامل معها على أنها أماكن متروكة لا صاحب لها. ولذلك فإنها عرضة لأن تُستملك وأن تُلقى فيها كل صنوف المخلفات البشرية، وعلى صاحبها أن يقوم باستعادتها إذا استُملكت، أو بتنظيفها إذا اتسخت لتكون سلة مهملات عريضة”.