تعالوا نُعِدْ كتابة الفصل الأخير … من الرواية التي نعيش !
نشرت
قبل سنة واحدة
في
السؤال الذي وجب أن نطرحه جميعا على أنفسنا بعد ما غرقنا في وحل قد يصعب الخروج منه لو بقينا على حالنا هذه من التشظّي والحقد، والرغبة الجامحة في الانتقام من التاريخ لإعادة كتابته بصياغة مغايرة، تنصفنا وتجرّم غيرنا ممن سبقونا…
السؤال، ماذا فعلنا بأنفسنا حتى نقع حيث وقعنا؟ هل نحن على وعي تام بما وقع ويقع لهذا الشعب وهذه البلاد؟ لا أظنّ أبدا أننا واعون بما يقع معنا، فما وقع معنا سنة 2011 من محاكم شعبية وفايسبوكية يعاد اليوم ومنذ سنتين وأكثر مع تبادل للأدوار فقط، ودخول عناصر جديدة لمشهد يتفكّك ويتشظّى يوميا…فاليوم تتوسع الهوّة بين أفراد هذا الشعب وتُهتك الأعراض وتُسفك الدماء دون أن تسيل من أجسادأصحابها، ويموت البعض بالتقسيط الموجع دون أن نعلم أنه مات، ويفقد البعض عقله عن غير وعي منه ورغما عن أنفه وأنف من خلّفوه كما يقال…هكذا هو مشهدنا اليوم… فكل يوم يمرّ دون أن ننجز صالحا واحدا ينفع الناس تزيد وطأة قبضة الوجع والمأساة وتُخنق الكلمات في أفواه أصحابها… وتطعن الحرية والعدالة من خلف…
تعيش البلاد اليوم مرحلة انفرط عقدها… فكل الأرقام في ارتفاع مخيف… البطالة… الفقر… الأمية… الأسعار… التضخم… المديونية… الحقد… والرغبة الجامحة في الانتقام من بعضنا البعض… نحن في حقيقة الأمر نعيش عملا دراميا خلناه رومانسيا فانقلب إلى تراجيديا قد يموت فيها بعضنا وهو يشاهد الفصل الأخير وقد يموت بعضنا الآخر غرقا في المتوسط وهو يحاول الهروب من محرقة الحقد والانتقام وقد يتكفل أبطال الفصل الأخير بدفن من يمكن دفنه من هذا الشعب في مقبرة الأغبياء والمغفلين… فالانخفاض الوحيد الذي تعيشه البلاد اليوم هو في معدل الوطنية فالجميع يريد مغادرة البلاد… والجميع يريد ان ينجو بنفسه من حضور فصل لم يكن موجودا في النصّ الأصلي لهذا العمل الدرامي الذي تعيشه البلاد…
ألا يمكن أن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا التاريخ؟ ألا يمكن ان ندرك ولو بعد تأخير أننا اخطأنا الطريق وأننا قادرون على إصلاح ما يجب إصلاحه؟ أيجب أن نثأر من التاريخ كل ما جاءنا حاضر آخر… أيمكن بناء مستقبل أفضل وأجمل لأبنائنا دون الثأر من بعضنا البعض…؟؟
أتعلمون لماذا بعد أن ابتلانا الله بأناس لا يحملون في رؤوسهم أية فكرة عن الدولة… ولا عن مؤسسات الدولة… ولا كيف تدار شؤون الدولة… أعود لأقول أتعلمون بعد كل ذلك لماذا أخطأنا الطريق وسلكنا طريقا وعرة أوقعتنا في وحل مؤلم ونفق مظلم، لأننا وبكل بساطة لم نستمع إلى خطاب العقل والمنطق والحكمة واكتفينا بسماع من امتلأت صدورهم حقدا ومن خسروا كل معاركهم ولم ينجحوا في إيجاد موقع تحت الشمس وخرجوا اليوم بهدف تصفية حساباتهم… هؤلاء هم من أوقعونا في الخطأ وحوّلوا الدراما الرومانسية التي انتظرناها وصفقنا لها ظنّا انه في ختامها سيتزوج الأبطال، إلى تراجيديا قد يموت في ختامها الجمهور… فمن يوم صفقنا طويلا للفصل الأخير من العمل الذي خلناه دراميا رومانسيا وسعدنا به، لم نسمع كلمة واحدة يُخاطَب بها الشعب أو بعضه عن واجباته وحقوقه وانتظاراته وأوجاعه ومستقبله وما ينقصه… وكيف يصلحُ حاله…
لم نسمع خطابا واحدا يجمع شتات هذا الشعب الموجوع ممن أفقدوه نكهة العيش في هذا الوطن …فخطاب اليوم حوّلوا وجهته إلى حيث يحقّق البعض مآربه… فبعضهم يريد التخلّص من خصومه… وبعضهم الآخر يريد التقرّب عبر أحقاده من السلطة عساه يجد مكانا لم ينجح في الحصول عليه سابقا… وبعضهم الآخر يرى في هذا الفصل الأخير حبل نجاته من العيش في الظلّ … هكذا هي بلادنا اليوم… الكلّ يكيد للكل … وجميعهم يكيدون للوطن وهم لا يأبهون… فكل ما نحن فيه اليوم سببه تحويل وجهة خطابنا من خطاب جامع إلى خطاب يهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور… والخاسر الأكبر هو هذا الوطن الجريح…
هكذا أيضا عشنا السنوات الأولى بعد جانفي 2011 …ظلمنا كثيرا من الناس… وأوجعنا الكثير أيضا… سجن المئات… وقطعت أرزاق الآلاف … وهرب الكثير من محرقة الانتقام والثأر… ثم يوم اكتشفنا الحقيقة (التي أغمضنا أعيننا عنها حين ارتفع منسوب الحقد عند بعضهم) خرج بعضنا يريد الاعتذار ممن ظلموا… وممن ماتوا وهم يعانون وجع ووطأة الظلم… ممن سنعتذر يا ترى؟ من الذين شوهناهم وخلقنا الأكاذيب عنهم وعن حياتهم؟ أم من الذين هتكنا اعراضهم وتسببنا لهم في وجع لا يمكن بأية حال أن يشفوا منه… ممن يا ترى؟ ممن لم نسمح لهم بحضور جنازة والدهم أم ممن؟ ممن سجنّاهم ظلما لأن بعض الوشاة أرادوا ذلك تصفية لحساب قديم أم ماذا؟ ممن جوعناهم بعد ان حكمنا عليهم بالطرد من عملهم دون دليل واحد يثبت إدانتهم؟ أم من الذين ماتوا كمدا وحسرة مما عاشوه؟ هل سيعيد الاعتذار الحياة لمن ماتوا؟ هل سيجمّع الاعتذار العائلات التي شتت شملها ظلما وعدوانا؟ هل سيعيد الاعتذار احترام الأبناء لآبائهم الذي قيل فيهم ما لم يقله مالك في “السلتيا”؟ ألم يحن الوقت لخروج فارس المصالحة من بين أنقاض هذا الوطن الذي يئن رغم انكار البعض بأننا في أسوأ حال؟
ذات جانفي 1984 خرج علينا الزعيم بورقيبة رحمه الله بكلمته الشهيرة “نرجعوا وين كنّا” فانطفأت نار الحقد إلى حين… اليوم لا أقول قولة الزعيم… لكن أقول تعالوا نعمل معا ونتصالح من أجل هذا الوطن… تعالوا ندفن فاس الحرب كما يقول الهنود الحمر في بلاد العم سام… تعالوا ننتصر للعدل… تعالوا نكسر حلقة الثأر والانتقام والأحقاد… فإن لم نفعل فالأحقاد ستلاحق أجيالنا القادمة … ولن يسعدوا بحياتهم أبدا لأننا اورثناهم الأحقاد…
كلنا قرأنا قصة كسرى ملك الفرس الذي أرسل رسولاً لمقابلة خليفة المسلمين حينها عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وقد ظل رسول كسرى ماشياً في المدينة سائلا عن مكان قصر الخليفة، ولكن الناس دلوه على بيت شديد التواضع، حتى أنه كان أدنى من بيوت أفقر فقراء المسلمين في ذلك الوقت… وقد وجد رسول كسرى عمر بن الخطاب نائما تحت ظل شجرة مرتدياً ملابس بسيطة وقديمة، فاندهش أيما اندهاش وقال “أهذا هو البطل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي يرتعد لسماع اسمه أقوى وأعظم الملوك… أهو كذلك ينام على جنبه في الطريق في أمان دون حرس ودون أن ينتابه الخوف من مؤامرات أو أعداء؟؟؟”… بعدها قال رسول كسرى قولته الشهيرة “حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر“… تعالوا نحكم بالعدل… فنأمن على أنفسنا وننام كما نام عمر…
في الأخير لن أقول ما قاله الزعيم فبعضنا يصاب بالغثيان بمجرّد سماعها لكن سأقول فقط تعالوا “نرجعوا” لوقت كنّا فيه أحبابا… تعالوا إلى زمن لا حقد فيه… ولا ثأر ولا انتقام ولا حساب… فمن الفارس الذي سيرفع صوته ويقولها عاليا… ليصبح زعيم المصالحة… تعالوا نعيد كتابة الفصل الأخير من الرواية ليصبح رومانسيا… فالتراجيديا لا تليق بهذا الشعب… فبعضنا يفتقد الوطن… وبعضنا يفتقده الوطن… تعالوا…