تابعنا على

جور نار

“تقرى ولاّ ما تقراش” … عقليّة

نشرت

في

أعتقد أن تبخيس الدّراسة، والانتقاص من قيمة المدرسة، والحطّ من قيمة المدرّسين، وازدراء الكِتاب، واستصغار مصعد المعرفة، والإساءة إلى رموز الثقافة والمثقفين خاصة خلال العقود الأخيرة …

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

أعتقد أن  تلك هي تمظهرات لعقلية دفينة لدى التونسيين (أو جزء كبير منهم على الأقل) تعتبر المِلك العام هو فقط ما يتراكم لدى القبيلة أو العائلة الضيقة، وأن الأساطير والخرافات التي تحكيها جدّاتنا أو يرويها الفْداوي هي أهمّ وأكثر إمتاعا من “المفعول به والمفعول لأجله والمفعول فيه”، وتعتبر أن الأرزاق بيد الرّازق، وبالتالي لا فائدة من بذل الجهد وأن الرّضى بالمكتوب عِبادة وأن القدر يختار دائما لنا الأفضل، بل ويذهب بعضهم إلى التشهير بقيمة الأمل وضرورة بذل الجهد معتبرا أن “الطموح هو الذي يقضّ مضجعك ويجعلك تعمل وتفكّر وتكدح ويطرد من جفنيك النوم بدلا من النسائم الجميلة التي تهبّ على قلبك عندما تستسلم للقضاء المقدّر”.  (من موقع أحد الدّعاة).

ثلاث ظواهر بارزة لمحاولة التدليل على ما أقول :

الظاهرة الأولى : شعار “تقرى والا ما تقراش… المستقبل ما ثمّاش”  وعُمرُه نصف قرن !!!

أحتفظ إلى الآن وبشكل ساطع بمشاهد التحركات التلمذية في منتصف سبعينات القرن الماضي وأواخرها عندما أفقنا ذات صباح ونحن صغار على وقع أصوات هادرة داخل ساحة المعهد تُنادي بإسقاط النظام… فراحت مجموعات هائجة مائجة من التلاميذ تُسقط زجاج الشبابيك الواحد تلو الآخر (بدلا من إسقاط رموز النظام) حتى بات المعهد وكأنه بناية استهدفتها مدافع حربية ثقيلة من كل الاتجاهات أو هبّت عليها “ريح صرصر عاتية”. أما السبّورات فقد تمّ اقتلاع بعضها لكتابة الشعارات والتجوّل بها نضاليا في أرجاء المعهد.

كان أحد الشعارات المكتوبة بالخط العريض “تقرى والا ما تقراش… المستقبل ما ثمّاش“.

لا أذكر أن شرطة تدخّلت (ربّما لعدم وجود قوات خاصة لتطويق مثل هذه الأحداث أصلا في ذلك الحين)، ولا أذكر أن تلاميذ أو طلبة وافدين تمّ إيقافهم ولكن أذكر جيدا أنه تملّكني الرّعب أمام كل ذلك الحُطام من الأشياء الثمينة في ذهني الرّيفي الصغير : بلّور وسبّورات وطاولات وحنفيّات وتجهيزات رياضية… واستبدّ بي شعور مفاده أن تعب سنين ذهب هباءً فجأة وأن سهر ليال تبخّر بغتة مادام “المستقبل ما ثماش” … وحتى الجسر الأول المؤدّي إلى ذلك الأفق قد تمّ تفجيره أمام أعيننا.

المُفارقة المُربِكة بل القاتلة أن جيلي كان يُدرك جيدا أن “القراية توصّل” خلال تلك السنوات (ومازالت، بالرغم من الصعوبات وانحسار الأفق وتغيّر مُفردات الوضع الشّغلي في العالم بأسره) وإلى غاية نهاية الثمانينات تقريبا، حيث كانت كل الآفاق مفتوحة في كل المجالات وبالنسبة إلى كل مستويات الإشهاد : في الإدارة وفي التعليم وفي الشركات وفي المنشآت العمومية وفي الأسلاك الأمنية والعسكرية …

بمعنى أن المصعد الاجتماعي الذي كانت تُتيحُه المدرسة كان في أفضل حالاته ويشتغل ملء طاقته دون أعطاب تُذكر. فظاهرة بطالة أصحاب الشهائد العليا أو المتخرجين الذين طالت بطالتهم ظاهرة حديثة نسبيا استفحلت بصورة خاصة في بداية الألفية الجديدة نتيجة التكثيف الجامعي وسوء إدارة عروض التكوين واستنفاد طاقة استيعاب الوظيفة العمومية وهشاشة النسيج الاقتصادي والصناعي الوطني من ناحية أخرى.

وما يزيد هذه المفارقة حدّة أن المنحة في التعليم العالي كانت حقا مكتسبا بالنسبة إلى جميع الطلبة تقريبا (وتكفي لسدّ بعض الشغورات في مصاريف العائلة أحيانا)، أما في المرحلة الثانوية ذات السنوات السبع حينها، فكانت “منحة التضامن” شاملة لعشرات الآلاف من التلاميذ المُقيمين وتغطي الإقامة والأكل (3 وجبات عادية ولُمجة السادسة والنصف مساءً المتكوّنة من قطعة خبز صغيرة تُسندُها قطعة جُبن أو إصبع من شوكولاطة الهِلال لسدّ رمق الجوع قبل وجبة العشاء المتأخرة نسبيا).

فأين تكمن وجاهة ذلك الشعار المدمّر والمُحبط الذي مفاده “لن تنجوَ مهما فعلت” ؟

تقديري أن :

– العقلية السائدة في المجتمع التونسي آنذاك (وربما إلى اليوم في مجملها) هي عقلية بَدْو (وهذا المصطلح ليس مرادفا لتعبير سكّان الريف بل مفهوم سوسيولوجي اشتغل عليه الكثيرون خاصة في علاقة بدراسة العقلية التي سادت البلدان الخليجية بعد الطفرة النفطية)  لا تؤمن بالدولة الحديثة اصلا ولا بالمرفق العام ولا بأهمية التمدرس بصفته أحد أعمدة النهوض المجتمعي والانعتاق ونيل الحرية على المستوى الشخصي.

– “الجماعات” التي أثّرت في المشهد التلمذي والطلابي خلال تلك السنوات كانت بصورة عامة جماعات احتجاجية كل ما يعنيها هو تصعيد التحركات ضد السلطة القائمة في غير إيمان عميق بالتحصيل المعرفي والعلمي ولا بدور المدرسة ووظائفها.

– مؤسساتنا التربوية كانت في ظل دولة الاستقلال الناشئة شبيهة إلى حدّ كبير بالمحتشدات والثكنات حيث لا توجد مساحات كبيرة للمرح والفرح وبهجة الحياة… بالرغم من رياديّة الدور البِنائي الوطني الذي لعبته، بما يجعلها فضاءات طارِدة لا تشدّ تلاميذها إليها.

الظاهرة الثانية : الهروب يوم 10 ماي.

في الثمانينات، ومباشرة بعد عطلة الربيع كانت تنطلق مجموعات من التلاميذ في تدبيج شعار “الهروب يوم 10 ماي” على حيطان المعاهد الثانوية في عديد الجهات وأحيانا يتغير هذا السقف ليصبح يوم 30 أفريل حسب المعتمديات وحسب ارتفاع درجات الحرارة هنا وهناك، أي الدّعوة إلى مقاطعة الدروس بداية من يوم 10 ماي مهما كان مستوى التقدّم في إنجاز البرنامج (وكان الأساتذة يتفاوضون بشكل متواطئ مع تلامذتهم للاتفاق على روزنامة شبه سرية غير مُعلنة، يتمّ بموجبها استكمال العناصر الأساسية في البرنامج كيفما اتفق وإسناد الأعداد التي لا بد منها لاحتساب المعدل السنوي العام). فلو نحتسب ما يُراكمه التلميذ في مثل وضع كهذا من وقت حقيقي للتحصيل طيلة كامل المرحلة الثانوية لأصابنا الذهول أمام الهوّة التي تفصل التلميذ التونسي عن نظيره الياباني أو السنغافوري في علاقة بعدد الساعات الفعلية المقضّاة على مقاعد الدراسة. (خاصة إذا تضافرت مع ظاهرة “الهروب” عوامل أخرى مثل غيابات المدرّسين والتحركات المختلفة الاحتجاجية منها والاحتفالية…)

الظاهرة الثالثة :  ظاهرة تمزيق الكراسات وتقطيع أوصال الكتب في نهاية السنة الدراسية أمام المؤسسات التربوية.

هذا مؤشّر آخر عن كون أعداد كبيرة من التلاميذ تعتبر المدرسة مُحتشَدا سالبا للحرية والكرّاس غير ذي قيمة، خاصة أن الخط الذي تُكتب به الدروس عادة ما يكون بائسا باهتا وبلا روح والكتاب حِملا ثقيلا من الأحسن التخفّف منه … للتخلص تماما من كل علامات الانتماء إلى فضاء لم يعد يُقدّره المجتمع اسمه المدرسة، أو إلى فئة طالبي العلم التي رذّلتها الثقافة الفهريّة وحوّلتها إما إلى شريحة من مروّجي الزطلة أو قطّاع طرق أو “فيران حبوسات”.  

هم يتصرفون هكذا بشكل همجي وسوقيّ وغير مدنيّ (يجب تسمية السلوكات بأسمائها البشعة أحيانا حتى وإن كان لها ما يبرّرها) لأن صورة المدرسة منكسرة في أذهانهم ولأنهم لا يتمثّلون قيمة تلك الأشياء البسيطة بالنسبة إلى أبنائهم وأحفادهم عندما يكبُرون، ولأن بيوتنا للأسف الشديد تحتفي بتشكيلات كؤوس الكريستال وشاشات التلفزيون أكثر من الكِتاب وأن “الحصن الحصين” الذي لا يخلو منه بيْت كفيل لوحده بالتعويض عن كل مكتبات الدنيا.

لكن وبعد كل هذا وباختصار شديد، هل مازالت “القراية توصّل فعلا” ؟ إجابتي و دون أدنى تردّد نعم “توصّل وتأصّل”.

المقصود بهدف الوصول هنا ليس بالضرورة الوصول بأقصى سرعة ممكنة إلى مُراكمة المال والشُّهرة والجاه، فهذه المراقي سهلة البلوغ نسبيا لأن السبل المؤدية إليها أصبحت معروفة ومُتاحة لكنها غير شريفة في معظمها ولا تُمكّن أصحابها من التّحديق باعتزاز في تفاصيل وجوههم صباحا أمام المرآة. المقصود هو قدرة المدرسة على الوصول بأبنائها إلى أعلى درجات المناعة والنضج والقدرة على التعلّم بأنفسهم والانخراط ذاتيا في مسالك الحياة بأفضل مقدّرات النجاح. ثم إن عددا كبيرا من المتميزين دراسيا يقتلعون درجات مهنية تُمكّنهم من تقاضي أجور مُجزية ونقية جدا لا يحلم بها كبار المهرّبين وعُتاة المضاربين.  

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 86

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …

عبد الكريم قطاطة

لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..

قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…

ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …

وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …

وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..

وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..

قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..

للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …

نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…

جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..

اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.

اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.

ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.

ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.

رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،

خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.

سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.

سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم

وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… التوسع… الحلول

نشرت

في

محمد الزمزاري:

التاريخ:

ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …

موقف بورقيبة من المخدرات:

خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.

ماذا عن عهد بن علي؟

عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.

بعد بن علي:

خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار