لا شك أن كل من يمشي على قائمتين في هذه البلاد (باستثناء دجاج المزرعة و بعض العباد) رفع القبعة احتراما و محبة للسيدة أنس جابر … و شكرها من الأعماق أنها أحيت فينا أملا خلناه مات، بل مات فعلا، و روّجت عنّا صورة غير التي كانت عناوينها الرقة و ريف حلب و صحراء فزّان و جبل الشعانبي و نزل الإمبريال … و رسمت هذه البنت المدهشة للمرأة التونسية خطا فاصلا بين شرف المناضلات و دعارة مجاهدات النكاح …
من دورة دولية إلى أخرى، و من ملعب إلى ملعب، و من معركة إلى معركة، كانت فارستنا تركض دون توقف و كنا نلاحق ركضها بنفَس مقطوع و فرح طفولي لا يكاد يوصف … و يجب أن نعود إلى سنين بعيدة، إلى زمن مكسيكو القمودي، و أرجنتين الشتالي، و أولمبياد الملولي، حتى نستعيد هذه الدقائق المساوية للعمر كله و التي تطير بك حتى تنسى الجاذبية، و غلاء الأسعار، و انقطاع الماء، و انقطاع الكهرباء، و انقطاع حتى الهواء عن رئات مرضانا صرعى الكوفيد و ضحايا مغول عشريتنا السوداء …
أما أهمّ صورة رسخت في بالي شخصيا عن هذه التونسية الشامخة، فهي علامات الأسف الشديد على وجهها و هي تغادر ربع نهائي ويمبلدون … كانت تحلم ـ مثلنا ـ بتونس أرقى و أعلى حتى قمّة الدورة و بطولة كأسها، و لم يكن يكفيها من اللقب الكبير نصفه و لا ربعه و لا ثُمنه، كما يكتفي و يهلل صغار البُغاث الذين عندنا …
في نظرتها الحزينة تلك، اختزلت أنس كل تاريخ أمجادنا التي يطمسها ضعاف النفوس و جهلة الدار و نباتات الظل التي تملأ اليوم هذه البلاد … أي هذه الدهماء القميئة القامة و الطموح، ممن يولعون بعبارات “الهزيمة المشرّفة” و “الخروج مرفوعي الرأس” و “المربّع الذهبي” و “وصيف البطل” و “الدولة الصغيرة” … بل وراح بعض “الكونتابلية” يزغردون على مبلغ 340 ألف دولار الذي أحرزته نجمتنا رغم الهزيمة، و يصرّفون ذلك بالدينار التونسي الشحيح … لقد لطمت بطلتنا بنظرتها وجوه السذّج رخيصي الثمن من مواطنينا، أو قل رعايانا المبثوثين على البلد مثل خراف الرحبة …
فدولتنا فعلا صغيرة فقيرة حقيرة، و لكن جرّاء أصحاب دولة هم من وزن الريشة و الذباب … دولة صغيرة جدّا، و لكنها تعلو شعبا هو الأكبر في كامل المنطقة، و تاريخه صفعة عنيفة على أقفية من لم يفتحوا كتاب تاريخ … و هل ذنب الأجداد العظام أن ورثهم أقلّ خلق الله و أدناهم إلى سفّ التراب و روث الحمير؟
لا وجود لهزيمة مشرّفة، ففي المعارك أنت قاتل أو مقتول، و العار للمنهزمين كما كان يردد شعب روما عند كل موقعة تنتصر فيها عليهم قرطاج الكبرى … و ربما كان هذا من أسباب ردة فعلهم علينا في ما بعد… و ربما أيضا، كان لهم ذلك من يوم أن ولد عندنا انبطاحيون عبروا الأزمان و ها نحن نعاني نتاج سلالاتهم اليوم …
انهزمت أنس البارحة أمام منافسة قال عنها أشباه محللينا إنها كانت أقوى و لا يمكن هزمها … الله الله … إذن ماذا يقولون عندما انتصر النحيل “تشانغ” ذات مرة على العملاق الأمريكي “جيم كورير” بالضربة القاضية … أو حين كانت البلجيكية الضئيلة “هينين” تعصف عصفا و تباعا بالشقيقتين “ويليامز” و كلاهما كانت في حجم و قوة مدرّعة حربيّة كبيرة الحجم؟ … أما عن تبرير ذلك بظروف البلد، فقد رأينا سابقا كيف كانت “الطفلة” مونيكا سيليس تسحق منافساتها الأوروبيات و الأمريكيات، و بلادها (يوغسلافيا) تضطرم كالتنّور في حرب أهلية و تطهير عرقي و موتى بمئات الآلاف؟
البطولة لا تنقسم على اثنين … و أقزام بلادنا الكثيرون يفخرون اليوم بربع بطولة (لا نصفها) كما خرجوا إلى الشوارع ذات مرة بالأهازيج مستقبلين منتخب كرتنا استقبال الأبطال، و هو المنهزم في نهائي “كان” 1996 في جنوب إفريقيا … فكان أن سقط نفس المنتخب في الدورة الموالية منذ الدور الثاني … و أمام منتخب محلّي من أضعف ما يكون !
و من حسن حظنا هذه المرة أن “أنس” الوطن و العزّة، لم تقع في فخّ قصار الأيدي و النظر، و لم تفرح بإنجاز هي تعرف أنها قادرة على ما أفضل منه … و الأفضل منه ليس سوى نيل اللقب الأول و تاج الدورة الأعلى، و سيتمّ هذا ذات يوم …
سيتمّ لك النصر يا سيّدة تونس و بوصلة فقرائها و حالميها … و الله معك، و قلوبنا أيضا.