طاف يوما بالمدينة مناد يقول : “ّ لقد خصصنا عددا من الحافلات في السّاحة الرئيسية للمدينة للرّاغبين في مغادرة البلاد بشرط أن يكون أصحاب الحظ السعيد هناك قبل مضيّ نصف ساعة من الآن الأولويّة لمن يصل أوّلا ( Premier arrivé,premier servi)
أسرع النّاس نحو ساحة المدينة و بعضهم مازال بلباس النّوم أو بملابسه الدّاخلية و البعض يزرّر أقفال قميصه أو سرواله و هو يلهث مسرعا و آخرون يحثّون الخطى حفاة …
كثر الهرج و المرج في الطرقات و الشوارع المؤدّية نحو الحافلات الموعودة وتدافع الجميع في يوم كأنّه يوم الحشر للظفر بمكان ضمن الهاجّين المهاجرين …لم يلتفت أيّ كان لا لأبنائه و لا لأبويه أو قرينه …في تجسيد تام لقوله تعالى “يَوْم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ و أمّه و أبيه و صاحبتِه و بنيه لِكُلّ امرِئ منهم يومئِذ شأن يُغنيه”
و استلّ البعض سكاكين و أسلحة بيضاء و سالت الدّماء على مدارج بعض الحافلات للحصول على مقعد قبل الانطلاق حيث ” حوت ياكل حوت و قليل الجهد يموت “
و في تمام الخامسة و النّصف صباحا و في احترام غير مألوف للوقت (على الأقلّ بالنّسبة إلينا أبناء هذا البلد ) أطلقت الحافلات أصوات أبواقها و انطلقت مندفعة بمن حملت نحو المطار داهسة من اعترض طريقها من أصحاب الحظ العاثر الذين بقيت أبصارهم متعلّقة بحلم تبخّر …
كنت أراقب المشهد من نافذة غرفتي في ذهول غريب و لامبالاة عجيبة و كأنّي غير معنية بالفرار من جحيم هذا البلد …
و بينما كان صدى منبّهات الحافلات يتردّد في أذني رنّ جرس المنبّه … حملقت في الغرفة في كلّ الاتجاهات .. فلم أر غير النافذة مفتوحة … قفزت نحوها أرصد الحركة في السّاحة و أتبيّن إن كنت في حلم أم في علم ..
تنفّست هواء الصباح الباكر و رحت أتأمّل المدينة تستيقظ متكاسلة و سرحت بذهني مفكّرة في ما يدفع أبناء بلادي نحو الرّحيل …
لماذا صارت بلادنا طاردة لأبنائها منفّرة لهم ؟ لماذا صار الجميع يحلم بمغادرة الوطن بحثا عن الجنّة الموعودة ؟ نساء و رجال شيب و شباب … متعلّمون و غير متعلّمين … مشتغلون و عاطلون … إطارات وعملة …؟
يقول جان جاك روسو ” الوطن هو حيث يكون المرء في خير..”
فما الخير الذي رآه التّونسي ليشعر بالمواطنة و ليبقى في بلاده و يضحّي من أجلها ؟ هل ضمن عملا ؟ هل حقّق حلما ؟ هل عاش رفاها ؟ هل تمتّع بخيرات البلاد و ثرواتها ؟ هل تلذّذ ثمرها و مياهها ؟ هل استمتع بجبالها و بحارها و مواطن جمالها ؟
ما الذي حققته له الثورة و ما قبلها ؟ ما الذي يشدّه إلى هذه البلاد و يجذبه إليها ؟
تنقلت الحظوة في سنوات من العائلة المالكة ( جماعة بن علي و أصهاره الطرابلسيّة ) إلى أحزاب الترويكا وخاصّة النّهضة و أتباعها و أقاربها و أصهارها بمنطق “ما تخرج الصّدقة كان ما يشبعوا امّالي الدّار” و حان الآن دور أنصار قيس سعيّد لجني ثمرة الولاء و المشاركة في الحملات التّفسيريّة و الاستشارة الالكترونيّة والحث على الاستفتاء و الانخراط في ما يسمّونه المشروع ..
جميع هؤلاء تتحكّم فيهم و تحرّكهم من وراء ستار خفيّ مجموعة من العائلات النافذة المتحكمة في مواقع البلاد وثرواتها و جماركها و أكبر مصانعها و مجالات التّجارة فيها عبر ما يسمّى بالتراخيص … هذه التراخيص التي تتعهّد كلّ حكومة تأتينا بالقضاء عليها و تعويضها بكرّاسات شروط – في أجل لا يتجاوز الستّة أشهر – لفتح المجال أمام كلّ المستثمرين و خاصّة منهم الشّباب … و تمضي الأشهر الستّة و تمضي الحكومات كذلك و لا شيء يتغيّر …
أمّا ابن الشعب .. المواطن البسيط الذي لا يملك غير شهادته أو عمله في أفضل الأحوال فلم يجن شيئا لأنّه لم ينخرط في العمل السياسي و لم ينضمّ إلى أحزاب أو مجموعات الموالاة، بل تواصلت خساراته على امتداد سنوات بارتفاع نسق التضخّم و ارتفاع الفواتير و تدنّي قدرته الشرائيّة و انسداد آفاق الشغل والعيش الكريم أمامه أو أمام أبنائه و فقدان الموادّ الأساسيّة من الأسواق و تفاقم الجرائم و تردّي الأخلاق وفقدان القيم و طغيان التفاهة …
كم من شاب مبدع مبتكر وجد لنفسه مستقبلا و مكانة و قيمة في هذا البلد ؟ هل اعترف بهم المسؤولون وشجّعوهم و ساعدوهم على تطوير معارفهم و تجاربهم و مكّنوهم من استثمار خبراتهم في ما ينفع البلد ؟ هل اهتمّ بهم الإعلاميون و قدّموهم ككفاءات و قدوات و أمثلة على النّجاح أم ان “الانستاغرامورات” والمعثّرين (لا المؤثّرين ) اكتسحوا السّاحة و كانوا أوفر حظا منهم و افتكوا منهم الأضواء بتفاهتهم وسطحيتهم ؟
فحتّى من صفّق للحظة 25 جويلية بدأ اليوم يستفيق على حجم الفراغ و الخراب الذي تسير نحوه الدّولة .. صراع سياسي قانوني دستوري و اهتمام بتثبيت أركان الحكم و دعائم الكرسي و عجز كبير عن حلّ المشاكل الاقتصاديّة و الاجتماعيّة ( تأخّر صرف الأجور والجرايات ، انقطاع المياه ، فقدان الأدوية و المواد الأساسيّة ، تفاقم طاهرة الحرقة ، زبلة صفاقس …)
سيقول الكثيرون إنّ التركة ثقيلة بعد سنوات من التّدمير و انعدام الكفاءة و هي نفس الحجّة التي تعلّل بها كلّ من تداولوا على الحكم بعد 2011 … و لكنّ من يترشّح للحكم يفترض أنّه يدرك ثقل التركة و جسامة المسؤوليّة، و من يصرّ على أن يحكم بمفرده لا بدّ أن يتحمّل تبعات خياراته و يكون في مستوى اللّحظة كما يقول …
جوقة من المطبّلين من هنا … فريق من المعارضين من هناك … جماعة بخيار ثالث … كمّ من مناكفات … مهاترات … لم نجن منها غير تشنّج الأجواء و توتير الأوضاع وإفساد العلاقات حتّى بين أفراد العائلة الواحدة… فلم لا يفكّر أكثر من ثلثي الشعب في الهجّة و لماذا لا يبحث كلّ فرد منّا عن خلاصه الذّاتي مادام قد فقد الأمل في الخلاص الجماعي …