هاتفني رئيس التحرير منذ يومين يسأل عن مقالي …وعن افتتاحيتي …بعد أن أعلمته أن قلمي أصبح عاجزا عن الكتابة في ظلّ ما تعيشه البلاد…وما يعانيه العباد…فعن ماذا يريدني رئيس التحرير أن أكتب؟ عن أوجاع الشعب…عن معاناته…عن اليأس الذي بدأ يدب في نفوس أغلب سكان البلاد…عن الأوضاع الاقتصادية العرجاء…عن الشلل في كل القطاعات؟…
عن ماذا يريدني رئيس التحرير أن اكتب؟ كتبت قبل غيري عما وصلنا إليه اليوم ونبهت عنه ومنه…كتبت عن ضرورة الالتفات إلى ما ينفع الناس…كتبت عن خروجنا عن النصّ تماما واكتفائنا فقط بالتغطية عن الفشل بالفشل وعن الخطأ بالخطأ… كتبت عن الحقد الذي شتّت شملنا وأوقعنا في صراع لن ينتهي قبل عقود…كتبت عن ضرب الخصوم وتجفيف منابعالمعارضة الذي لن يفيد البلاد ولا العباد…كتبت عن أوضاعنا الاقتصادية التي نخرها انقسامنا…كتبت عن الكذب الذي أصبح جزءا من تركيبة الهواء الذي نتنفس…فالكل يكذب على الكل والكل يحقد على الكل…جميعنا يضمر الشرّ بجميعنا…وجميعنا تأبط شرّا لجميعنا…لا شيء يبشّر بانفراج في الأفق…ولا احد يمكنه أن يجزم أن حالنا سيكون افضل غدا…أكثر من نصف هذا الشعب يفكّر في الهجرة…يفكّر في الإبحار دون رجعة…يفكّر في وطن آخر يشعره بأنه إنسان…بأنه حرّ يفعل ما يريد كما يريد ومتى يريد…يقول ما يريد متى يريد وكيف يريد…يفكّر في وطن يشعره بالأمان والاطمئنان على مستقبل فلذات أكباده…عن ماذا يريدني أن اكتب رئيس التحرير؟ هل يريدني أن أكتب عمن ماتوا منذ 14 جانفي يأسا واحباطا وقهرا…أم عن حالة الموت بالتقسيط التي يعيشها أغلبنا بسبب ما تعيشه البلاد وما يعانيه العباد…؟
عن ماذا أكتب؟ هل يريدني أن اكتب عن المصفقين والمتلونين مع كل من يجلس على كرسي الحكم؟ هل يريدني أن اكتب عن الذين يوهمون الشعب بأنه بخير وأنه في أحسن حال ويرفعون شعار “تونس غدوة خير” عن أي “غدوة” يتحدثون ويصرخون…فهل ثمة يا ترى “غدوة” ونحن على هذه الحال من التشتّت والفرقة والانقسام؟ عن ماذا يا رئيس التحرير تريدني أن اكتب بالله عليك؟ لا تقل إنك تريدني أن أكتب عن علاقاتنا التي أفسدناها مع كل من يمكنه مساعدتنا على الخروج من هذا الوحل الذي غرقنا فيه؟ لا تقل…أتريدني أن أكون سعيدا بما ينظر به بعض العالم إلينا…أتريدني أن اسعد بكل ما يصدر عنّا في حقّ بعض من كنّا نؤازرهم ويؤازروننا في الشدائد…؟ عن ماذا تريدني أن اكتب يا رئيس التحرير والإعلام البديل غزا كل المشهد فأصبحنا نسبح في بركة من المياه العفنة والإعلام المأجور مسبق الدفع…عن ماذا تريدني أن أكتب عن أكاذيب الإعلام البديل وهتكه لأعراض الناس والدولة بنشر وثائقها السرية وبيعها على قارعة مواقع التواصل الاجتماعي…أعن كل هذا تريدني ان أكتب؟
يا رئيس التحرير…سأكتفي اليوم بهذا…ليس هناك ما هو أخطر علينا وعلى البلاد في هذا القطاع اليوم من هذه الفوضى التي نعيشها وتعيشها البلاد…فالبلاد يوم تعاني من حملات تزييف للحقائق وتشويه للواقع…وتأليب لهذا ضدّ هذا وعلى الآخر…وفي الصحافة… بإعلامها الرسمي وإعلامها الموازي البديل المتمثّل في فضاء التواصل الاجتماعي بأقلامه المأجورة وأقلامه المأمورة وضعاف أقلامه النزهاء، هناك الكثير والكثير ممن هم في حاجة وبشدّة لأن يتعلموا الموضوعية وأن يلتزموا بالحقيقة ولا يتجاوزونها في كل سطر يكتبونه أو ينشرونه…وفي كل كلمة ينطقونها في منابرهم الحوارية…وعلينا ان نضع نصب اعيننا وفي جميع اعتباراتنا أن للناس عقولا تعي وتفقه وتميّز بين الحقيقة والباطل…بين الواقع والأوهام…وأن بلادنا ليست في حاجة إلى كل هذا الكمّ الرهيب من الأكاذيب والأباطيل والأراجيف… بلادنا في حاجة ماسة إلى مقاومة التصحّر بجميع أنواعه وفي كل المجالات…اجتماعيا…وثقافيا…واقتصاديا…وفلاحيا… وسياسيا… وهذا الأهمّ…
خاصة ونحن نعيش مرحلة من أخطر مراحل تجفيف المنابع والقضاء على كل الكساء النباتي السياسي الذي أثّث المشهد بعد 14 جانفي…بأشواكه وأعشابه الطفيلية ونباتاته الضارة ونباتاته الطبيّة والرعوية وحتى العطرية…فدون كساء نباتي متنوّع متعايش…سنغرق في رمال صحراء لا حدود لها…