تونس بين قضاء افتُكّت منه سلطته… وإعلام لعق الحذاء والانحناء !
نشرت
قبل سنتين
في
لا أظنّ ان الجميع يعرف قصّة اللباس الأسود وكيف أصبح زيّا موحدا للمحاماة في كل أنحاء الدنيا… سنة 1791 كان أحد قضاة فرنسا جالسا في شرفة منزله يستنشق الهواء وفجأة شاهد مشاجرة بين شخصين انتهت بقتل أحدهما وهروب القاتل…فأسرع أحد الأشخاص إلى مكان الجريمة وأخذ القتيل وذهب به إلى المستشفى لإسعافه ولكنه لفظ أنفاسه الأخيرة ومات فاتهمت الشرطة الشخص المنقذ وكان بريئا من هذه التهمه…
وللأسف فقد كان القاضي الذي شاهد المشاجرة وما وقع فيها هو من سيحكم في القضية، ولأن القانون الفرنسي لا يعترف بغير الأدلة والقرائن، فقد حكم القاضي على الشخص البريء بالإعدام رغم أنه واقصد القاضي كان شاهدا على الجريمة ويعرف حقيقة أطوارها كاملة كما يعرف من قام بها لأنها وقعت أمام منزله… ومع مرور الأيام ظل القاضي يؤنب نفسه المعذبة بهذا الخطأ الفادح… ولكي يرتاح من عذاب الضمي، اعترف أمام الرأي العام بأنه أخطأ في هذه القضية وحكم على شخص بريء بالإعدام … فثار الرأي العام ضده واتهمه بأنه ليس صاحب أمانة ولا ضمير… وذات يوم وأثناء النظر في إحدى القضايا في جلسة كان يترأسها هذا القاضي، وقف أمامه محام يرافع في القضية يلبس بدلة كاملة السواد… استغرب القاضي أمر المحامي وسأله: لماذا ترتدي هذا الرداء الأسود؟ فأجابه المحامي: لكي أذكرك بما فعلته من قبل وحكمت ظلما على شخص بريء بالإعدام …أظنك تذكر الأمر جيّدا؟
منذ تلك الواقعة أصبح الرداء الأسود زيّا رسميا لكل من يمتهنون مهنة المحاماة، ومن فرنسا انتقل إلى سائر بلاد العالم…هذه قصّة الروب الأسود للمحاماة…لكن هل تغيّر الحال وهل قرأ الجميع قضاة ومحامين الدرس جيّدا من قصّة هذا الرداء أو هذه البدلة السوداء؟ لا أظنّ فنحن في قلب عاصفة هوجاء من الظلم…فلم نتقدّم خطوة واحدة في رفع المظالم عمّن ظلموا سابقا وعمّن يظلمون اليوم…وكل يوم…ولم نتقدّم خطوة واحدة في ترسيخ مفهوم وأسس العدالة التي نريد…
هل غيّرت ما يسمونها “ثورة” شيئا في ما عاشته وتعيشه البلاد من ظلم ومظالم؟ لا…لا يزال القضاء وظيفة ينكّل بها الساسة كما يريدون ويرغبون، خدمة لأجنداتهم ومصالحهم…ويوم يرفع الساسة اياديهم الملطّخة بظلم الناس وضرب الخصوم عن القضاء سيصبح هذا الأخير سلطة مستقلة تعيد للعدالة مفهومها…دون ذلك فلن يعود عمر الفاروق…ولن يعيد التاريخ عمر بن عبد العزيز…بل سيعود بيننا الحجاج حتى اشعار آخر…
ما يعيشه القضاء يعيشه الإعلام أيضا…فهل نعيش فعلا حرية للصحافة أم تجاوزناها بمراحل….فما نراه هنا وهناك لا يمكن أن يكون حرية صحافة…وحرية رأي…ما نراه هو انفلات وفوضى إعلامية تجاوزت كل حدود المنطق والمعقول…فحرية الصحافة اليوم أصبحت لعنة بعد أن كانت مكسبا وجب الحفاظ عليه ودعمه أخلاقيا…وحين تتجاوز الحرية حدود المعقول وحدود المقبول تصبح سمّا قد يقتل أصحابه…فصحافتنا اليوم انقسمت إلى ثلاثة اقسام …قسم تلميع الأحذية ولا أقصد من يمتهنون ذلك بشارع باريس…وقسم هتك الأعراض…وقسم المغلوبين على أمرهم…
فبعض أقلامنا اليوم أعزّها الله رأت في الانحناء لتلميع أحذية من يملكون السلطة والجاه والمال خير سبيل لكسب الرزق…فهؤلاء اكتشفوا فوائد تلميع الأحذية ولعقها فهي مصدر قار لرزق وفير…وسعر التلميع واللعق يتفاوت حسب صاحب الحذاء….و”الشلاكة” أحيانا…فـــ”الشلايك” أيضا تلمّع في بلادنا…ومن فوائد تلميع الأحذية تدريب الظهر على الانحناء…فهؤلاء يعوّضون الصلاة والانحناء للخالق بالانحناء أمام أصحاب الجاه والسلطة والمال لتلميع أحذيتهم وقد يصل بهم الأمر إلى السجود للعقها إن لزم الأمر ذلك….وفي تونس… أقول في تونس فقط لا حاجة لبعض الوزراء وأصحاب المال بتلميع أحذيتهم في شارع باريس أو في احد الأنهج الفرعية لشارع بورقيبة…يكفي أن يأمروا أحد الأقلام فيأتيهم مسرعا منحنيا…ساجدا…
أما القسم الثاني فهو هتك الأعراض…فهتك الأعراض اليوم أصبح أيضا من مصادر الرزق الوفير إذ يكفي أن تفتح دكانا إعلاميا لبيع الذمم وتهدّد بعضهم بكشف تاريخهم وما فعلوه أو حتى بتلفيق التهم لهم دون قرينة وإن لزم الامر صناعة القرائن…لتكسب من وراء ذلك مالا قد لا تقدر على كسبه لو سلكت الصراط المستقيم…فالابتزاز أصبح اليوم إحدى أدوات كسب المال…
أما القسم الثالث فهو للمغلوبين على أمرهم من لا يزال ضميرهم يرافقهم أينما ذهبوا… هؤلاء هم من يعانون الخصاصة والتنكيل وهم من يدفعون فواتير باهظة لجرائم قام بها هواة لعق الحذاء وعصابات هتك الأعراض… هكذا هي اليوم صحافتنا…وهكذا نعيش المأساة… لكن ليعلم الجميع من يمتهنون لعق الحذاء والانحناء…ومن يهتكون اعراض الناس…أن الأحداث ستنتهي يوما ما …وتبقي المواقف..