بعد نشر ورقة سابقة خصّصتها للحديث عن أهمية الضّمني وغير المباشر وأنصاف المعاني في سلوكاتنا اليومية، تذكّرت أن هذا الواقع مؤسّس له نظريا وتناولته مدارس الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع بالتحليل والدرس منذ منتصف القرن الماضي.
وتنقسم ورقة اليوم إلى قسمين : بعض العناصر النظرية التي من المهم الاطلاع عليها أولا ثم محاولة تحديد إلى أي صنف ينتمي السياق التونسي وكيف ؟
أولا : نظريا – الثقافات نوعان كبيران
كان إدوارد تويتشل هول (1914 -2009) عالم الأنتروبولوجيا الأمريكي هو أوّل من روّج لمفهوم المثاقفة واهتم بصورة خاصة بالأبعاد الخفيّة التي تتحكّم بسلوكاتنا بشكل غير واع في مجالات التواصل التي لا تتكوّن فقط من محتوى الرسائل، بل إن شكلها يكون أهم أحيانا من المضمون نفسه بما سيجعل إدوارد هول يميز كونيّا بين سياقيْن تواصليّين مخصوصين : السياقات المرتفعة والسياقات المنخفضة.
ففي الثقافات عالية السياق (مثل آسيا والبلدان العربية والإفريقية، بالرغم من أن عديد البلدان الأسيوية مثل اليابان بلغت اليوم درجة كبيرة من التأثر بعقلانية بعض النماذج الأخرى) يكون للكلام أهميّة اقل من السّياق، والفرد ليس بحاجة الى معلومة صريحة من اجل رد الفعل والانخراط في التواصل الذي يعتمد بالنسبة إليه على العلاقات البينيّة القوية. لكنّه عادة ما يكون غائما وغير لفظي ويُدرِج أشكالا أخرى من التعبير مثل الحركات والنظرات والإيماءات أو كذلك الفضاء البين شخصي (المسافة الجسدية بين الأفراد) ولا يقتصر على نقل المعلومات فحسب. هذا السياق العالي يهم الثقافات التي تزخر بعلاقات اجتماعية قوية ومبنيّة على دور محدد قبليا من طرف المجتمع ومؤسّساته.
الوافد على هذه الثقافات من خارجها مُطالب بأن يتحلّى بصبر كبير أثناء الحوار والمفاوضة لأن الزّمن لدى حامليها متحوّل ومرن وسائل. والسياق العالي فيه نوع من الثراء العلائقي والتواصلي (كثافة التلميحات والايحاءات والدلالات الحافّة ومساحات الصمت وسُمك المسكوت عنه) لكنه قد يتسبّب في خلق أجواء من عدم التفاهم والغموض والالتباس خاصة مع الثقافات ذات السياق المتدنّي.
أما في الثقافات ذات السياق التواصلي المنخفض (مثل ألمانيا والولايات المتحدة و اسكندينافيا بصورة خاصة) تكون المعلومة موضوعية وواضحة بشكل حدّي وباتّ. تتمّ صياغتها من خلال اجراءات محددة وتواصل دقيق ومكتوب يحدد لنفسه أهدافا معلومة. التواصل هنا صريح ومباشر (أولوية التحليل والتفكير الاستدلالي العقلاني) ويتبادل فيه الأفراد كمّا كبيرا من المعلومات على حساب ثراء السياق. تكون المعلومات كثيفة ومنتقاة ومنظمة ويتم تقديمها بدون غموض أو إلغاز.
هذا المزاج الثقافي يُنتج في أغلب الأحيان تواصلا “باردا” من نوع علائقي- قانوني مبنيّ على أهداف مُفصّلة وقابلة للتحويل إلى أرقام في أفق زمن محدد (تخطيط ومواعيد وآجال) قابل للمراقبة. في هذا السياق يكون كل شيء مرتّبا بشكل يجعل منه شيئا مفهوما من خلال رسائل واضحة ومختصرة ولا يؤخذ بعين الاعتبار الا الاشياء المتعارف عليها والمعطيات المُرقّمة والحقائق الملموسة الخالية من التداخل، والمسكوت عنه كما الروابط العاطفية لا قيمة لهما.
الأسياويون و العرب والأفارقة ينتمون في المقابل الى ثقافة ذات سياق عال لأن الأفراد يعيشون بشكل جماعي حول روابط قوية من التبعية المتبادلة والانتماء الجمعي أهم من أي اعتبار آخر.
وت حضرني في هذا السياق الطُّرفة المتّصلة بالحديث الذي دار بين صديقين الأول تونسي والثاني ألماني حيث كانا على وشك إنهاء المكالمة الهاتفية التي جمعتهما وأرادا الاتفاق على موعد خلال مساء اليوم الموالي. قال التونسي للألماني “مالة نتقابلوا غدوة ان شاء الله الأربعة الخمسة هكاكة”، فردّ الألماني مباشرة “نتقابلو بالطبيعة لكن أعلاش مرّتين في الأربعة والخمسة ؟ “
ثانيا : أين نحن من هذين السياقين الكونيّين ؟
وهذه بعض الأمثلة التواصلية الدالّة على هذا البُعد العالي في ثقافتنا التونسية (للتدليل مرة أخرى على أنّ مستوانا ماهوش ديما واطي في كل شيء) :
نحن شعب يُلمّح ولا يُصرّح، وذلك حتى في المعاملات الرسمية والرسائل المتصلة بسلامة المواطنين كأن تقرأ على قسيمة الدواء “يُخلط في كميات كافية من الماء ؟؟؟ فهل هذه الكمية الكافية تعني10 سل، 20 سل أو أكثر ؟ أو كأن تقرأ في بلاغات الدولة “النقل مضمون الا بالنسبة الى رحلات العودة مساءً والمقصود هو أنه ليس هناك نقل أصلا. أو كذلك التأكيد أن “الشركة تمر بصعوبات مالية” والمقصود أن يتهيّأ العمّال لتقبّل موجة واسعة من الطرد.
التونسي يُراهن على ما يتوجّب عليك أن تفهمه ضمنيّا عندما يتحدث إليك، فعندما تعرض عليه مثلا (حتى وإن كانت والدتك) أن يأكل ويقول لك “لا ما عينيش الحمد الله” فذلك لا يعني بالضرورة أنه لا يرغب في الأكل بل عليك أن تلحّ مرارا وتكرارا للتأكّد من صدق نواياك وأن دعوتك لا تنتابها أية مجاملة. والتونسي أيضا يُفاخر بأنه مسؤول فقط عمّا يقوله لك ولا يتحمّل أية مسؤولية عن المعاني الحافّة التي قد يشي بها كلامه ذاك. بمعنى أنه يمنح نفسه حرية تفخيخ خطابه كما يشاء ولا يجد حرجا في عدم بذل أي جهد لجعل رسالته واضحة ودقيقة.
في تونس، باعتبارها ذات ثقافة تنتمي إلى السياق العالي أيضا، يتكثف الكلام المُبطّن ومحاولة الإيذاء دون اللجوء إلى الكلام وتفضيل استعمال الأمثلة العامية أو جزء منها فقط دون استكمالها لترك المغزى مُعلّقا وإمكانية التراجع تظل واردة، كأن يقول التونسي :
شافت الضّيف… (دون استكمال طلقت مولى البيت) في إشارة لمن يرتمون بسرعة في أحضان الأجنبي بإغراءاته ومَكره على حساب الوطن الأم.
أو الباب المحلول… (دون استكمال يدخّل الغولة والغول) في وصف عدم حزم الدولة في صَوْن سيادتها وحدودها.
أو تعارك سعد و سعداالله… (هزوا مبارك للحبس) عندما يتحدث التونسيون عن خصومات السياسيين التي يدفع ثمنها الشعب الكريم.
أو القط لمّا شرف حج وزمزم… للحديث عن الذين يُؤدّون مناسك الحجّ لكنهم يستمرون في ارتكاب نفس الآثام والمعاصي أو الذين يتجلببون بالتقوى لاقتراف الأخطاء بأنواعها.
وأخيرا، التونسي يسنّ دستورا قضى عديد السنوات في صياغته لكنه يُبدع في ترك مساحات شاسعة من الغموض والالتباس داخله لأنه يُراهن على السياق وحرية التأويل اللاحق. كالقول إن “الحق في الحياة مقدس لا يجوز المساس به إلا في الحالات القصوى (الفصل 22) أو الصحة حق لكل إنسان (الفصل 38) أو الحق في الماء مضمون (الفصل 44) أو الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي (الفصل 13) الخ… أما عن الإجراءات والصيغ ووفق أية شروط وآجال التمتيع بالحقوق …فذلك أمر متروك للسياق.