تابعنا على

جور نار

تونس في مهبّ الأحقاد … بين مطرقة قيس وسندان الطبوبي!

نشرت

في

يتحوّل السيناريو التونسي من مشهد الى آخر ومن فصل إلى غيره، بشكل يخلق حالة من عدم الاستقرار والثبات في قراءة وتحليل المستجدات والمعطيات، واستشراف القادم بشكل يتيح لنا فهم الأدوار، وما قد تؤول إليه الأحداث في قادم الأيام والاشهر…

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

تونس التي عرفت ومنذ خروج بن علي رحمه الله “زحمة واكتظاظا” في الأحداث والفعل وردود الفعل تراوحت بين الاغتيال والاختطاف والتسفير والتهجير والتهديد والوعيد وتهميش وإذلال أغلب كفاءات البلاد، وأغلب القيادات السياسية والإدارية التي صنعت ربيع ومجد تونس…فربيع تونس الحقيقي سبق بكثير الربيع العربي المزعوم الذي جاء بنيّة قطف ثمار ما صنعه كبار الكفاءات التونسية في المؤسسات العسكرية والأمنية والتعليمية والصحيّة والإدارية والتربوية، فالربيع العربي المزعوم جاء لإذلال جيل ذهبي صنعته منظومتا بورقيبة وبن علي رحمهما الله ودون أن تعي فداحة ما اقترفته أرغمت كبار الأطباء والمهندسين والقضاة والإعلاميين والكتاب والمؤرخين والعلماء والباحثين على البحث عن حضن آخر أكثر استقرارا وأمنا يحتضنهم…

الربيع المزعوم لم يغيّر حال أبناء هذا الوطن الجريح…بل ذبحهم ومنع عنهم الفرح وعاد بهم إلى أكثر من قرن إلى الوراء…من حكمونا منذ احدى عشرة سنة نسوا أن العمل السياسي يحتاج إلى قيادة حكيمة ناجعة تتعامل مع العقل وتُغلّبُه على العاطفة والمزاج…أغلب من حكموا تونس منذ 14 جانفي لم يحكّموا العقل بل جاؤونا بخطاب الكراهية والعنف…هؤلاء لم يأتوا لبناء وطن واحد لشعب واحد بل جاؤوا لتقسيم الوطن…وتشتيت شمل الشعب… ماذا فعل خطاب الكراهية والحقد في الشعب الواحد؟ مزق شعبا بأكمله… وزرع الكراهية والخوف حتى جعل هذا الشعب يعرف مستوى معيشيا متدنيا لم يعرفه سابقا…فالحرية والديمقراطية لا تعوضان الرغيف ولا تشبعان الشعب من جوع أصبح يدقّ على أبواب أكثر من ثلث شعب مخدوع…واليوم أيضا تتواصل الخديعة ويواصل بعضهم ملء صدور البعض الآخر حقدا وكراهية على بعض هذا الشعب…

سندان ساكن ساحة محمد علي…

تونس اليوم تعيش خديعة أخرى لم تعشها سابقا…تونس تعيش بين مطرقة ساكن قرطاج، وسندان ساكن ساحة محمد علي وكلاهما أخطأ ويواصل الخطأ في قراءة المشهد الذي تعيشه البلاد وكلاهما أساء تقدير حساسية المرحلة وهشاشة الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وترديه…فالاتحاد يحاول جاهدا وبكل الطرق انقاذ نفسه من ورطة عشرية هدم البناء الذي بناه رجالات تونس، فأعلن الحرب على ساكن قرطاج محاولا إيجاد موطئ قدم في “المنظومة القيسونية” وكسب ودّه شريكا بكامل الأوصاف والصلاحيات كما كان مع من سبقه، ليس حبّا في هذا الشعب كما يظنّ البعض بل انقاذا لنفسه من تبعات شراكة كاملة في حكم عشرية هدم وخراب…فقيادات الاتحاد لم تعدّل الفصل العشرين من نظامها الداخلي من أجل عيون العاطلين عن العمل، أولئك الذين عذبتهم طيلة عشرية كاملة ويزيد بوعود وهمية وكذب وخداع وهراء، بل عدّلته للبقاء في مواقعها دفاعا عن مصالحها وانقاذا لنفسها من محاسبة آتية لا ريب فيها…فالاتحاد كان شريكا بأكثر من النصف في حكم العشرية التي أطلق عليها أمينه العام “عشرية الخراب”…متناسيا انه كان شريكا بأكثر من النصف وكان الآمر الناهي في كل ما تقرره الحكومات التي مرّت على  القصبة…قيادات الاتحاد لم ترأف بحال البلاد يوما واحدا، وهي حقيقة ينفيها البعض وتشخيص يخفيه البعض خوفا من عقاب ساكن ساحة محمد علي …

اتحاد “الطبوبي” وخلافا لما تعرفه النقابات لم يكتف بالدفاع عن منظوريه بل وصل به الجبروت والاستبداد والغطرسة إلى معاقبة بعضهم وحرمان كل من تسوّل له نفسه انتقاد سياسات ساكن ساحة محمد علي من حقوقهم، وقد يصل الأمر إلى المطالبة بعزلهم او بتجميدهم أو حتى تجريدهم من خطتهم الوظيفية…فالحاكم الفعلي كان ولا يزال في أغلب المؤسسات هو الاتحاد…فهو من تنكّر لكل الشعارات التي رفعت قبل واثناء حراك 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 …نعم هو من اختار ليّ ذراع كل الحكومات مطالبا بتسوية الوضعيات والنفخ في الأجور والمرتبات ولم يفكّر يوما في تجميد الأسعار والأجور لخلق فرص جديدة لتشغيل من ماتوا و هم يطالبون بالتشغيل، ومن وعدوهم بالخروج من محنتهم….فماذا وقع؟…لا شيء …تواصلت بطالة مئات الآلاف…وانتفخت مرتبات وأجور الموظفين والموظفات والعاملين والعاملات…فهل كان الوزير يتصرف وحيدا في وزارته؟ لا… كانت النقابات الأساسية تفرض عليه ما تريد، متى تريد، وكيف تريد…وهل كان المدير العام يتصرّف كما يريد في إدارته؟ لا…كانت النقابة الأساسية تفرض عليه ما تريد ومتى تريد ولمن تريد…هكذا عاشت البلاد في عشرية هدم وخراب كان الاتحاد شريكا بأكثر من النصف في ما وقع فيها…واليوم بما يأتيه، يحاول فقط التخلّص من تبعات ما أتاه طيلة عشرية يصفها بعشرية الخراب وهو الحاكم بأمره فيها وخلالها…

و مطرقة ساكن قرطاج…

أتحوّل للحديث عن مطرقة ساكن قرطاج التي لا تختلف كثيرا عن سندان ساحة محمد علي، فقيس سعيد لم يقرأ المشهد جيدا وكما يجب، وسقط في نفس الفخّ الذي سقطت فيه الترويكا حين تسلم الحكم من “داهية” وديناصور سياسي خبر كل فنون وفخاخ الحكم ومنزلقاته وتعلّم على يد بورقيبة ورفاقه رحمهم الله جميعا…فالباجي رحمه الله ترك إرثا ثقيلا على كل من سيأتي بعده، حين جلس في القصبة لسنة أعتبرها شخصيا سنة درء السقوط في ما سقطت فيه بقية الدول التي اكتوت بربيع عربي قاتل مات بين أزهاره الاصطناعية المزيفة الآلاف…وشُرّد بشوكه الموجع الملايين…

قيس سعيد كان يتصوّر ان حكم البلاد وإصلاح حالها، بالبساطة التي يكتب بها خطبه وتهديده ووعيده وويله وثبوره، وسقط في نفس ما سقطت فيه النهضة قبله، فقيادات النهضة تصوّرت أن الدولة هي “صندوق” من المال يوزعه من يحكم كما يريد لمن يريد متى يريد، فخاب ظنّها وتصوّرها، ففشلت في الحكم وخرجت منه رغم أنفها لتعود إليه خلف “الستار السبسي”…ألم تعد النهضة بتشغيل 550 ألف عاطل فلم تنجح في تشغيل عاطل واحد ممن ماتوا ينتظرون وصول ورقة تشغيلهم …

قيس سعيد لم يلتفت يوما لما وجب أن يلتفت إليه من مشكلات البلاد، بل اكتفى منذ صعوده إلى قرطاج بمحاربة خصومه ومحاولة التخلّص منهم وتشتيتهم لغاية في نفسه ونفس من يساعده في تخطيط مستقبل البلاد على مقاسه…رئيسنا لم يستسغ أن يكون رئيسا منقوص الصلاحيات فقرر أن يقلب كل الأوضاع لصالحه على طريقته…ولم يكتف بخطبه النارية والعنقودية بل نجح في صناعة مبررات “انقلابه” الدستوري، فعطّل عمل حكومة من اختاره هو ليكون صاحب القصبة…ولم يحرّك ساكنا أمام غزو الوباء ديارنا الا بعد أن استولى على البلاد ومفاصل حكمها… ووضع كل العراقيل الممكنة في طريق كل عمل حكومي وكل قانون برلماني…ونجح في جرّ البعض إلى أرض معركته، من خلال اللعب على مزاج جزء كبير من الشعب، فزرع في أذهانه حقدا وكرها لكل من سبقوه في حكم البلاد…فقيس سعيد بما أتاه ضاعف كميّة الحقد في نفوس اتباعه وأنصاره والآلاف من الشعب المخدوع بخطابه التحريضي الذي كانت خلاصته “أنا أولا أحد”، الأمر الذي جعل كل من لم يغنموا شيئا من الربيع العربي والعشرية التي سبقت مجيء قيس سعيد للحكم يوجهون أصابع الاتهام لمنظومة النهضة وكل من حكموا معها وبها ومن خلالها البلاد قبل انتخابات 2019 وخلال سنة ونصف من حكم قيس سعيد ومن معه…فخلال عام ونصف لم يبق قيس سعيد مكتوف اليدين بل نجح في خلق الذرائع وصناعة المبررات لتفعيل الفصل 80 الذي طالبه به البعض…وقد كان خلال تلك المرحلة يرفض فكرة الالتجاء إلى تفعيل ذلك الفصل، وأكّد على ذلك سويعات قليلة قبل غزوة عيد الجمهورية المفتعلة والتي كانت مِسك ختام مرحلة خلق الذرائع وصناعة المبررات…

إذن نجح قيس سعيد في جرّ أغلبية الذين يضمرون شرّا بمنظومة الحكم التي سبقته إلى صفّه، وجعل من الأحداث التي عاشتها البلاد يوم 25 جويلية بأيادي اتباعه وبعض “المبهورين” بخطابه ذريعة للالتجاء إلى ذلك الفصل الذي كان قبل سويعات يقول ويؤكّد أنه لن يلتجئ إليه، مباشرة بعد تفعيل الفصل 80 وإعلان انقلابه دستوريا على نفسه ـ فهو من المنظومة ويعتبر أهمّ اضلاعها ـ خرج عشرات الآلاف يجوبون الشوارع فرحا بما وقع وترحيبا بقرارات الرئيس، وكان من بين هؤلاء الدساترة ومتفرعاتهم، واليسار ومكوناته، وأغلب الأحزاب التي لم تجد مكانا تحت شمس قبّة باردو، وتصوّر الجميع أن الرئيس امتلك المشهد السياسي برمته ونجح في كسب ودّ كل الشعب، والحقيقة هي أن كل الذين خرجوا ليلتها لم يخرجوا يهتفون بحياة الرئيس حبّا فيه بل لأنه فقط ابعد النهضة ومن معها من الحكم…بعض هؤلاء وأحزابهم أخذهم الطمع في التواجد في منظومة حكم قيس سعيد القادمة فخرجوا يهتفون باسمه وبما اتاه…هؤلاء جميعا خاب ظنّهم بعد عشرة اشهر من انقلاب الخامس والعشرين من جويلية وعادوا إلى مواقعهم وأحزابهم ساخطين…

هذا الأمر يؤكّد حقيقة واحدة هي أن اتباع قيس سعيد وانصاره هم من سكان الفضاء السيبرني ولا وجود لهم في الواقع…وقد يخيب ظنّ الرئيس في قادم الايام حين يدرك ان حجم من ناصروه لا يتجاوز حتى نصف من انتخبوه في الدور الأول…فكل من خرجوا مساء الخامس والعشرين عادوا وسيعودون في قادم الأيام إلى أحزابهم، وإلى مواقعهم غاضبين فهو لم يغيّر من حال من انتخبوه، ولم يصلح امرا واحدا مما كان ينتقد اعوجاجه حين كانت النهضة ومن معها بقيادة من اختاره للقصبة يحكمون…خلاصة ما جرى ويجري قيس سعيد يتابع كثيرا عمليات سبر الآراء “الزرقونية”، ولم يع إلى حدّ الساعة أن الزرقوني يخدعه ويحاول ايهامه بوضع مخالف لواقع سياسي منفلت…فحتى من انتخبوه لم يكونوا ابدا من أتباعه، ولا من أنصاره، بل كانوا قواعد وأتباع أحزاب أخرى قررت قياداتها قطع الطريق امام خصمه خوفا من تبعات ما اشتبه به هذا الأخير…فقيس سعيد يفاخر بشعبية وهمية افتراضية زرعتها في ذهنه عمليات سبر الآراء، وهذه “الشعبية” الافتراضية والوهمية ومن يؤثثها لن يخرجوا غدا من شاشات هواتفهم ليذهبوا إلى الخلوات الانتخابية ليختاروه رئيسا للبلاد لدورة ثانية، أو لاختيار دستوره الذي كتبه على مقاسه ومقاس ما يريده …وهذا هو الخطأ الأخطر والوهم الأكبر الذي وقع فيه قيس سعيد ولن يقبل بأن يناقشه فيه أي ممن هم حوله…وقد يستفيق يوم إعلان نتائج الاستفتاء على دستوره المنتظر…بحجم أتباعه الحقيقي…حينها سيدرك ان خدمة الشعب لا يمكن أن تكون بزرع الأحقاد هنا وهناك وتقسيم البلاد مللا وطوائف…

إلى اين نحن سائرون؟

فهل بخطاب الكراهية والحقد نبني وطنا يتألم…ألم نقرأ الدرس من الدول التي سار حكامها على نهج خطب الكراهية والعنف والحقد وزرع الفتن؟ ألم نبك حالهم وحال شعوبهم؟ فهل يجب أن تبكي الشعوب الأخرى حالنا، ونحن نعيش حالة من الانقسام والتشرذم بسبب الأحقاد والكراهية؟ كل الدول التي راهنت على خطاب الكراهية سقطت في مستنقع التخلّف والجهل والفتن والفقر وعاشت استبداد وغطرسة دكتاتورية قياداتها التي تبنت ذلك الخطاب…وكل الدول الفقيرة التي نسيت أحقادها، وتصالحت بينها وبين بعضها، وتبنت خطاب التسامح والاعتدال والتجميع والإصلاح، نجحت في الخروج من حالة الفقر وأصبحت تطمح لمنافسة بعض الدول الكبرى والغنية …

لم يقف خطاب الحقد والكراهية عند قيس سعيد ومن معه من أتباع ومريدين بل تعداهم إلى منصات التواصل الاجتماعي، واصبح يشكل خطرا على مشهد سياسي مأزوم…فتفشي ثقافة الحقد والكراهية قد تتحوّل إلى فتنة تأتي على ما بقي من أخضر في هذا الوطن “اليابس”…فتونس هي أكثر الدول العربية يتداول شعبها خطابا حاقدا ومحرّضا على “الفايسبوك”…ومن أكثر الشعوب تضليلا وتصديقا لخطاب التضليل على منصات التواصل الاجتماعي… فإلى متى تواصل حكومات ما بعد 14 جانفي سرقة اللقمة من أفواه فقراء هذه البلاد بخياراتها الخاطئة…وإلى متى يتواصل سلب جيوب المحتاجين من أبناء هذا الشعب بحجج واهية ومبررات لا ذنب للشعب فيها…

تمرّ تونس اليوم بأسوأ مراحل وجودها منذ بعثت أي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة… بؤس وفقر واحباط واعتقالات وسجن لحرية الراي وتشويه سمعة وصناعة مبررات وخلق ذرائع وهمية… لن نخرج مما نحن فيه ولن نستطيع التغيير إذا بقينا على اختلافاتنا هذه…لن ننجح مستقبلا في الوقوف في وجه العنف إن واصلنا نشر هذا الخطاب البغيض الحاقد…ولن نستطيع أن نضمن استقرارا وأمنا لأجيالنا القادمة إن واصل بعضنا خطاب الانا والانانية وبقي يحاكم التاريخ ومن تولوا قبله بأحكام مسبقة وبحقد لا نعرف مصدره أو إلى اين يمضي…بعض ما يقع في هذه البلاد ومنذ أكثر من عشر سنوات يحرمنا من التعايش بسلام بعضنا مع بعض، ويحرمنا من أهم شيء داخل النفس البشرية “إنسانيتنا”…علينا ان نقبل بالاختلاف وأن لا نعتدّ بأغلبية مساندة صورية وهمية لا وجود لها في غير شاشات هواتفنا الغبيّة…علينا أن ندرك أن الحياة تنوّع…والحياة اختلاف وليست خلافا…فبعض ما نعيشه اليوم وما نراه هو رقابة على ألسنة الناس…وعلى ما قد يدور في عقولهم…وقد وصل بنا الأمر إلى محاسبة بعض الناس على نواياهم وما يضمرون…أأصبحنا نعلم بما في الصدور؟؟

إصلاح حال هذه البلاد يمرّ حتما عبر إتاحة المساحة للجميع لممارسة دورهم دون أن يتملكنا الخوف ممن يختلفون معنا في الانتماء والتفكير…فإصلاح أوضاعنا يمرّ أولا وقبل كل شيء عبر ترك سوء النيّة، وحسن الظنّ بالآخرين، حتى وإن كانوا خصوما ومنافسين لنا سابقا ولاحقا…

علينا أن نؤمن بحرية عقل كل ساكن على هذه القطعة من الأرض، فداخل كل فرد من هذا الشعب تكمن قدرة فائقة على تغيير الأوضاع…كل الأوضاع…ولا يجب الاستهانة بما يمكن أن يغيّره العقل البشري…فعقل الانسان هو الذي يسيّره نحو الخير أو نحو الشرّ…فلنحاول تغليب الخير على الشرّ في عقولنا جميعا… لنخرج هذه البلاد مما هي فيه بأخفّ الاضرار…

ولمن يتمسّك بمحاكمة الماضي ألا ينسى انه سيصبح غدا من الماضي، وقد يحاكمه المستقبل؟…إن لم يفعل ذلك حاضرنا…فنحن لا نقدس الماضي كما يتصوّر البعض ولا نبكي عليه رغبة في العودة إليه، فالماضي لا ولن يعود…إنما نحن نخاف على حاضرنا بما فيه…ونخاف مستقبل أبنائنا بما قد يقع فيه…فزرع بذور الحقد…لا ينبت القمح…

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    جور نار

    ورقات يتيم… الورقة 115

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

    عبد الكريم قطاطة

    عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

    في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

    مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

    تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

    اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

    إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

    قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

    الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

    موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

    قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    جور نار

    لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

    نشرت

    في

    محمد الأطرش:

    كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

    تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

    سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

    الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

    هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

    أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

    ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

    يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

    أكمل القراءة

    جور نار

    ورقات يتيم… الورقة 114

    نشرت

    في

    عبد الكريم قطاطة:

    في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

    عبد الكريم قطاطة

    والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

    بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

    هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

    السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

    انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

    ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

    تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

    وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

    في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

    دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

    الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

    رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

    ـ يتبع ـ

    أكمل القراءة

    صن نار