الواضح أننا مررنا من مرحلة الدولة العقلانية، ودولة البناء والبرامج…والمخططات الاستشرافية قبل 14 جانفي، إلى دولة الوعود الكاذبة والشراكة الكاملة الملغومة والمشؤومة مع منظمة أصبحت مصدر وجع البلاد وخرابها بعد جانفي 2011، ووصلنا اليوم إلى دولة بيع الأوهام وإغراق الشعب في الأحلام…وتعلّم الحلاقة في رؤوس الأيتام…
فالمنظومة الحاكمة اليوم وهي الجزء المتبقي من المنظومة التي جاءت بها انتخابات 2019 قرأت جيدا وحفظت عن ظهر قلب ما كتبه نعوم تشومسكي حول استراتيجيات التحكّم في الشعوب…
وأولها استراتيجية الإلهاء، فنحن نعيش اليوم بأغنية لكل مستمع مع كل صباح، ووصلة جديدة تنسينا الوصلة التي قبلها كل مساء…ومعزوفة مع كل مجلس وزراء، فهذا الشعب يعيش كل يوم عملية تحويل وجهة، فإن خاب ظنّه في أمر ما بالأمس، تخرج علينا الدولة اليوم بحدث آخر يغطّي حدث الأمس…
وثانيها استراتيجية ابتكر المشاكل، ثم قدّم الحلول… وهي اختصاص تعمل به دولتنا منذ انتخابات 2019 فكل طرف شريك في الحكم يعرقل الطرف الآخر…ويقطع الطريق أمام الآخر…وفي الأخير اوجد بعضهم حلا لمشكل خطّط له وصنعه وبناه، أبعد به بقية الشركاء ليمسك بكل تفاصيل الحكم ويحقّق كل مبتغاه…
وثالثها استراتيجية التدرّج …وهي التي استعملتها منظومتنا بعد الخامس والعشرين من جويلية فنحن اليوم نعيش التدرّج في السقوط إلى الهاوية، وفي عملية كتم أنفاسنا وتكميم أفواهنا، فلا غرابة أن نصبح غدا من جوقة المطبّلين… والمصفقين كبقية من انضموا إلى المجموعة الصوتية…
ورابعها استراتيجية المؤجَّل…وهو ما نعيشه يوميا من خلال ما تقرره دولتنا فلا شيء تحقّق ولا وعد أنجز كما يقول أحمد فؤاد نجم “ورزقي ورزقك ورزق الكلاب ده موضوع مؤجل ليوم الحساب”…
وخامسها استراتيجية مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار…فنحن اليوم نستمع…ونستمع… ولا أحد منّا يقول كلمة واحدة ردّا عمّا سمعه…جميعنا نجلس مع كل نشرة أخبار أو منشور فايسبوكي في صفحة “مولانا” لنستمع إلى الدرس الذي يعيدنا إلى مكاتب الدراسة وإلى الإصغاء والانتباه، فدرس اليوم ينسينا الدرس الذي سبقه ومع كل درس نستمع إلى موال “الويل والثبور وعظائم الأمور”…
وسادسها استراتيجية استثارة العاطفة بدل الفكر…وهي الاستراتيجية التي جعلتنا جميعا كالخرفان نستمع إلى مرثية عن الجوع والفقراء فنبكي …وخطاب ناسف عن أموال منهوبة لا وجود لها، وعن شركات أهلية ستفسد في الأرض وتحرق بقية المحصول فنصفّق…وعن الفاسدين أو المشتبه فيهم من الذين لا ذنب لهم غير أنهم لم يعلنوا الولاء فنصرخ ووااامعتصماه…ووواقيسااااه…
هكذا نحن اليوم شعب مدجّن كالدجاج…نشتري الأوهام ونصفّق لبائعها…ونصدّقها…نحلم ليلا بالتشغيل والقضاء على البطالة فنستيقظ سعداء…أغبياء…فننسى أن هوّة الفقر زادت اتساعا…وأن الوباء ضاعف نسب البطالة وعدد الفقراء…وننسى أن الطبقة الوسطى التي عشنا نفاخر بها تحلّلت واندثرت واختفت عن أنظارنا وأنظار مؤشراتنا التي نقرأ صباحا مساء…فمرتباتنا أصبحت تصلنا عرجاء…ففي كل عملية بنكية يقضمون منها نسبة بحجة مقاومة الفقر…وعجز الميزانية… وآثار الوباء…وديون الحمقى والأغبياء…
دولتنا وحكام دولتنا لا يريدون أن نبقى أقوياء أشدّاء…فهم يخافون منّا أن نخرج عليهم ونرفض حكمهم…فهم لا يعلمون…ولا يفقهون أن الجوع…والحقد…والفتنة…والفقراء أخطر عليهم وعلى كراسيهم وعلى البلاد من الوباء…فيا حكامنا…وعشاق الكراسي…لا تخافونا فنحن لن نرضى بأن نسعد وأنتم تصبحون تعساء…فقط نريدكم أن تقرؤوا التاريخ…تقرؤونه…وتعيدون قراءته جيّدا…فالجاهل بالتاريخ…سيضرّ بحاضره…وسيقضي على مستقبل أجياله القادمة… فتاريخنا لم يكن أبدا أسوأ من حاضرنا…و تونس كانت عظيمة…واليوم أصبحت ما خفي كان أعظم…
فكم خدعونا باسم الدين…والوطن…والوطنية…والمواطن…وباسم العلمانية…وباسم التكنوقراط…وكم ظلمونا وأهانونا باسم الحق الدستوري…وكم صرخوا في وجوهنا وخدعونا باسم الدستور والقانون…وباسم المغفور لها هيبة الدولة…رحمها الله ورزق أهلها وشبابها “شقف” هجرة و”حرقان”!!