أتحدّى مسؤولي وزارة النقل ووزارة الداخلية أن يعثروا على تاكسي واحد في تونس العاصمة لم يدخل بعدُ نظام “البولت” الذي يُفوْتِرُ تعريفة التنقّل إلى مكان ما بوِحدة اليورو أي 3 مرات تكلفة السفرة العادية، والذي يتطلب أيضا تنزيل تطبيقة خاصة BOLT على الهاتف الجوّال الذي ينبغي أن يكون بدوره مرتبطا بشبكة الإنترنت 4G حتى يتسنّى لك كمواطن تنتظر قدوم سيارة تاكسي فارغة أن تحدّد وِجهتك بدقّة (دون تحديد مكان تواجدك في تلك اللحظة لأن ذلك يتمّ بصورة آلية عبر التطبيقة)، وفي ظرف بعض الدقائق الوجيزة تراها صفراء قادمة نحوك وكأن الملائكة أنزلتها من السماء.
التاكسي هو بحد ذاته من صنوف الترف الذي لا يقدر عليه جميع التونسيين ورغم ذلك يتضاعف سعره ثلاث مرات وتُقصى من خدماته شرائح واسعة من المواطنين. بالإضافة إلى ذلك، ألا تدرك دولتنا بمؤسساتها العتيدة وشعاراتها البليدة أن جزء كبيرا جدا من كبار السنّ خاصة القاصدين المستشفيات والمخابر والوزارات والإدارات المختلفة ليس لديهم “هواتف ذكية” ولا يعرفون كيف ينزّلون التطبيقات المعقدة ولا يدركون معنى أن يكون لديك ارتباط بالشبكة وأنت خارج البيت ؟
تحادثت مع أحد سوّاق التاكسي وسألته عمّا وراء هذه الظاهرة فأكد لي أن الأغلبية المطلقة من سيارات التاكسي في العاصمة انخرط في منظومة بولت لأنها مُجزية أكثر وأنه عندما يكون منشغلا بعمل ما وتكون والدته على سبيل المثال بحاجة ماسّة إلى سيارة أجرة يرسل إليها سيارة بولت. مضيفا أن المنظومة غير قانونية ولكن الشركة لها مقرّ قانوني بارز على مرأى من كل أجهزة الدولة وقوانينها.
كان بالإمكان أن يقع تخصيص نسبة مائوية معينة من تاكسيات العاصمة بشكل اختياري وتوظيف ضرائب خاصة على من يختار الانخراط في هذه المنظومة وترك بقية الأسطول في خدمة سائر المواطنين بتعريفات مقبولة نسبيا مقابل تسليط أشد العقوبات على المتجاوزين و”المُتبوْلتين” دون وجه حق.
في ألمانيا، تمّ مؤخرا إقرار تعريفة موحدة لا تتجاوز 9 يورو شهريا من 01 جوان الى آخر أوت 2022 (تشمل خدمات القطار والميترو والحافلات) في كامل أنحاء ألمانيا ومها تكون المسافة لتذهب حيثما شئت ومتى شئت. .. في بلد يرتقي فيه النقل العمومي إلى مرتبة الخدمة العامة الحيوية في نفس مستوى الأكل والشرب والعمل والكرامة بقطارات سريعة وحافلات وثيرة…. وشبكة طرقات وسكك حديدية على درجة عالية من الوظيفية. لكن المقارنة لا تجوز لأن المواطن الألماني ينادونه بورغر bürger بينما يكاد يتحوّل لدينا إلى هامبورغر يطحنونه ويعجنونه ويفرمونه ويحوّلونه إلى نسي منسيّ.
تسليع الخدمات : النموذج الزاحف
المشكل أن ما يحدث في قطاع النقل العمومي المتداعي للانهيار التام فاسِحًا المجال لكواسر القطاع الخاص يحدُث بنفس الكيفية تقريبا في قطاعين استراتيجيين آخرين هما الصحة والتعليم.
في مجال الصحة ثانيا : في كل بلدان العالم وخاصة في البلدان ذات الاقتصاديات المتطوّرة، يحتلّ المستشفى العمومي موقعا مركزيا في المنظومة الصحية مقارنة بالمصحّات الخاصة التي تشكّل استثناءً (مستشفيات بيشا وكوشان وسالبتريار بباريس، بوردي وبروغمان ببروكسال، جبل علي بالإمارات…) بينما أصبحت المستشفيات العمومية في بلادنا هي رمز تدهور الخدمات (باستثناء المستشفى العسكري إلى حد ما) وأصبحت المصحات الخاصة هي المرجع في جودة الخدمات وإنقاذ حياة الناس. فصيدليات المستشفيات العمومية شبه فارغة إلا من بعض حبّات الأسبيرين والكِينين وأقرب موعد للتصوير بجهاز السكانار على بعد شهور وغرف تكتظ بمرضاها وانتظار بالساعات قبل التسجيل وأطباء وممرضون يُشتمون ويُضربون ووجبات غذائية فقيرة مسبّبة للأنيميا.
في مجال التعليم ثالثا :
التعليم بدوره زحفت عليه أمواج التسليع فبات بسرعتين، قطاع عمومي متآكل بمؤسسات تربوية كأنها محتشدات وحياة مدرسية حزينة وبرامج متكلسة ومسالك دراسية مغلقة وخانقة لروادها ومربون لا يتكونون إلا بمجهود ذاتي وامتحانات وطنية مُقصية لفئات واسعة من التلاميذ ومنظومة لا تعترف بالمعابر ومسالك الإنقاذ… مقابل قطاع خاص يوفّر تماما ما تخلّى عنه التعليم العمومي : الرفاه البيداغوجي وجودة التعلمات وحسن التأطير ونجاعة الإعداد للاندماج في الحياة وفي عالم العمل بعد التخرج.
وفي ضوء سقوط هذه القطاعات الحيوية الثلاثة وجعل ولوجها غير متاح إلا لمن يقدر على دفع الثمن غاليا، يبدو أننا نتجه رأسا نحو نمط مجتمعي أقرب إلى التوحّش واللاإنسانية حيث يتراجع أو يندثر تماما دور الدولة الاجتماعي والتعديلي ويهيمن فيه بشكل مطلق منطق “لكل حسب ما يجود به رصيده البنكي وليس حسب ما هو جدير به كإنسان ذي كرامة من حقه على دولته أن لا تدعه على قارعة الطريق”.