غدا عيد الجمهورية الذي قال عنه المغنون “أعظم ذكرى وطنية” و نقول عنه فقط إجازة سنوية … نعم، فهذه الأعياد الوطنية ترتبط بمناسبات مفهوم بعضها (الجلاء العسكري، المرأة، الشهداء …) و فيه معنى و تاريخ و اعتبار، فيما بقي بعضها الآخر مجهولا تماما… الجمهورية مثالا …
يلتبس معنى الجمهورية عند مكثرنا مع مفاهيم أخرى … فلو سألت أي تونسي عن المصطلح الجمهوري سيجيبك مثلا بأنه إنهاء حكم البايات المتخلف النهّاب المتواطئ مع الاستعمار … فترد عليه بأن التخلف و السرقة و خدمة القوى الأجنبية ليس حكرا على الملوك و يا ما في الحبس رؤساء … أو يجيبك بأن الجمهورية تعني مؤسسات منتخبة و حقوق إنسان و قضاء مستقلا … فتلاحظ له بأن هذه من سمات النظام الديمقراطي، و أن الديمقراطية يمكن أن تكون داخل مملكة و أن تغيب عن جمهورية … أو يجيبك ثالثا بأن الجمهورية أن يمضي الواحد لقضاء شؤونه دون إزعاج صحفيين، و أن الوصول إلى المخبزة قبل إغلاقها أهم من هذه التخاريف …
الجمهورية في نظري انتهاء عهد المكاسب الموروثة و الدخول في مرحلة الاستحقاق، فهل حصل ذلك في تونس على مدى 65 سنة؟ … تتباين الآراء بحسب مواقع الناس في بلدك و مصالحهم و عواطفهم و ما رسب في ذاكراتهم من قوالب نتيجة دعاية مطوّلة على غرار الأغنية أعلاه … و لكن حين يسأل مواطن السلطة عن الفوارق المهولة بين أربع ولايات و باقي الجمهورية، بين جهات تعيش في بحبوحة و بين جهات أصواتها مبحوحة، بين جهات شبيهة بـ “مونتي كارلو” و بين جهات شبيهة بمدن القصدير البرازيلية … حين نسأل السلطة لماذا هذا التمييز؟ لماذا هذه الامتيازات؟ لماذا هذا الفقر؟ لماذا هذه الهجرة الجماعية … عندما تسألهم يجيبونك بأن هذا الوضع موروث من عهد الاستعمار …
إذن بقيت امتيازات الوراثة … إذن بقيت عائلات بعينها تسيطر … إذن بقيت جهات بعينها تستمتع بريْع السلطة … إذن ما قاله عنا ممثل الاتحاد الأوروبي ذات مرة صحيح … إذن تسخّر الإدارة مناشيرها وتراتيبها وعراقيلها لخدمة أناس ذات الناس منذ الدولة الحسينية … إذن تغيرت الأسماء و الصفات و عنوان الدولة، ولم تتغير الدولة نفسها … إذن نحن لم نخرج من عباءة الأمين باي و الصادق باي مهما ادّعى المدعون … إذن سقطت جميع أركان هذا المصطلح الفضفاض و تستخلص أن لا جمهورية لدينا
سنعترف بوجود جمهورية يوم تصبح ولاية القصرين هي الأولى في معدل الدخل، و ولاية سليانة هي الأعلى في التنمية البشرية، و ولاية القيروان هي الأقل جريمة و انتحارا و فشلا مدرسيا … و سنرفع على الهامات صور الزعيم (أيّ زعيم) و نحيي ذكراه بكل خير، حين تصبح المئات من مناطقنا الأثرية المدفونة، و ربوعنا الساحرة بجمال طبيعتها، و صحراؤنا العامرة بهاء و هدوءا و قمرا أليفا … معالم سياحة تدرّ أضعاف ما تجلبه ثلاثة أو أربعة شواطئ أكلها الانجراف و كثرة الفنادق و سياح الغفلة و أعشاب البحر …
سنقول عاشت الجمهورية حين تمتلئ ولايات الداخل بسكّانها و يقف نزيفها الديمغرافي على الأقل … وسنهتف بحياة “ريبوبليكا” أفلاطون و روسو و غرامشي، وقت تختفي الأحزمة البائسة من ضواحي العاصمة … و يعود اللون الأخضر إلى غابات بنعروس و سهول منوبة بدل الأحياء الفوضوية التي لا يحدها بصر …