جور نار

جميلة ابنة الكلب الحياة

نشرت

في

هذا نصّ كتبته في ثمانينات القرن الماضي وكل الأمثلة الواردة فيه هي حكايات حقيقية مرتبطة بأشخاص حقيقيين عرفتهم وعاشرتهم، وباعتباره نصّا لم يُنشر من قبل أولا ونظرا لكون وضعنا مازال على حاله بعد حوالي ثلاثين عاما ثانيا، أعيد كتابته ونشره لعلّه يحتوي على بعض عناصر وحدة لقيس ما جَنَيْنا خلال ما يربو عن نصف قرن.

<strong>منصف الخميري<strong>

أغلب الناس عندما تصادفهم في الشارع أو في المؤسسة تعليمية كانت أو إدارية وتسألهم عن أحوالهم وأحوال أبنائهم وأمهاتهم وظروف عملهم، لاحظت أنهم نادرا جدا ما يقولون كلاما جميلا مُسلّيا ومُرفّها بنّاءً، هم غالبا ما يبدؤون كلامهم المكرور بـ “لاباس إي…لاباس متاع عْرَبْ طبعا”، ثم ينهالون عليك – في الساعة السابعة والنصف صباحا- بما لا يعجبهم في هذا الواقع المُناوئ : ظروف العمل وأحوال الطقس والمقدرة الشرائية والوضع الذي عليه وسائل النقل ومستوى التعليم والعنف في الملاعب وتفاهة البرامج التلفزية وتفشي الظواهر المرضية الغريبة على مجتمعنا واستمرار تشتت الأمة العربية… وصولا إلى عنجهية النظام العالمي الجديد وبربريّته.

يُنهي مداخلته التذمّريّة وكأنه حفظها عن ظهر قلب، وهو لا ينتظر منك جوابا أو تفاعلا أو ردة فعل أو انطباعا ما لأنه لم يكن ينوي التواصل معك أصلا (التواصل بمعنى التبادل والتقاسم والتفاعل والتقمّص العاطفي خاصة)، فأنت بالنسبة إليه “أفضل مكان يفرغ فيه أحمال عقده النفسية” كما يقول الأديب الشهيد غسان كنفاني … يُفرغ أثقال قلقه وخوائه الداخلي ويمضي تماما مثل شاحنات المصالح البلدية وجرّاراتها التي تعود كل صباح بنفس الحمولة الملوّثة.

هذا النموذج الذي أتحدث عنه ليس وجوبا ذلك المثقف المتابع لتطور الأوضاع في الداخل والخارج والذي يرصد مشاكل الأفراد والمجموعات وإنما بالإمكان أن يكون اي مواطن عادي تعلّم بالفطرة أن الحياة غير جديرة بأن نحياها وفُطم على التسخّط والتبرّم الدائمين. وإن سرد هذه الأمثلة من المشاغل والأزمات لا يعني كوني اعتبرها قضايا مُفتعلة، بل هي أزمات حقيقية وقد تكتسي طابعا فاجعا في كثير من الأحيان لكن استحضارها في كل آن وحين لن يضيف شيئا على طريق إيجاد المعالجات المناسبة لها ولن يزيد النفس المكدورة أصلا الا كدرا ووجعا.

نلمس تجليات هذا الخطاب النكدي المؤسّس للسواد والعويل والحِداد في مُفردات حقل اصطلاحي ودلالي بشع آخذ في الاتساع دوما (قطار البؤس وسينما الميوعة وتلفزة تكريس الرداءة والنساء المتبرّجات وأساتذة آخر زمان وصحافة الارتزاق ومواقع تدبير الراس ومسؤولين يدوّرو في الزيرو وأمهات يمنعن صدورهن عن فلذات أكبادهنّ حفاظا على نضارتهنّ والعياذ بالله…) مع ملاحظة أن هذه النعوت تعتبر مُهذّبة جدا بالنظر لما نسمعه من جُمل عاميّة مصنوعة من زجاج مهشم وحوامض فوسفورية ومسامير صدئة.

هذا الراهن ومهما بلغ لفْحه ولظاه لن يكون بالتأكيد أكثر فظاعة مما عاناه أجدادنا عبر مسيرة عذابهم الطويلة… هو متأزم وبائس فعلا لكن جيوب البهجة والضوء في طيّاته – على ضآلتها- قائمة، ويكفي أن نبذل مجهودا اضافيا ونقنع أنفسنا – في الساعة السابعة والنصف صباحا- بأن الأوائل كانوا يقاومون بوسائلهم المتواضعة ويحتجّون ويُنكّلون بممثلي السلطة المركزية ولكنهم كانوا قادرين في نفس الوقت على صنع المسرّة وزرع الفرح واختراع المرح وتمريغ أنف الجدب في تراب “أصل الزين في العينين” و “أشنيّة الدنيا بلاش انتي” و “يا دار الحبايب” … ويكفي كذلك عدم تشغيل اسطوانة “لاباس عربي” المشروخة واستبدالها على سبيل المثال بـــ :

هل رأيت البارحة أولئك الصبية الصوماليين الذين يؤدّون رقصة مرتبكة فوق حطام المروحية الأمريكية التي تم اسقاطها في موقاديشيو… ؟ أنا متأكد أن ذلك الطفل الشقي الذي كان يحاول اقتلاع احدى عجلاتها المطاطية ينوي أن يصنع بها نقّالة.

أو “هل استمعت البارحة إلى المعلق الرياضي في تلفزتنا الوطنية اليتيمة يقول “لكن الكرة مدوّرة أحيانا ويجب أن نقبل بالنتيجة”؟… وكأنها مستطيلة أحيانا.  

أو كذلك “انظر صديقي إلى هذه الألوف المؤلفة من التلاميذ الذين يؤمّون المدارس، أي الأنظمة الحسابية باستطاعتها توقّع عدد الذين سيخترقون منهم جدار الانتقاء ويصبحون علماء ومبدعين وخبراء وأطباء ورياضيين بمستوى عالمي  … ؟

أعلم سلفا ردة فعل ذاك الديناصور الذي سيصفني بـ “التعتيم على بؤس الناس والتغطية على مسؤولية النظام الحاكم” لأنني أدافع عن وضع قائم ومصلحة كل أولئك المستفيدين من استمرار وجوده وأنه يكفي أن نتفاءل حتى يصبح الواقع جميلا وقابلا للتحمّل.

أنا لا أدافع عن أحد (فأنا ليست لدي لا مدافع ولا قوة دفع خارقة) وإنما أدافع فقط عن حقي المطلق في أن أتوجه صباحا الى عملي على أمل تقاسم درس شيّق وفارق مع تلاميذ كلّهم أمل في مستقبل وضّاء وعلى ايقاع لحن جميل ونكتة لذيذة وجملة شهية ومزاج لا تعكر صفوه تنهداتهم السوداوية المثبطة للعزائم، ودفاعا عن حقي كذلك في أن أنام أو أغفو بعيدا عن موجات الإذاعات المختصة في صنصرة الفرح وبث الأغاني التي تربطها علاقات صداقة متينة مع أعصابنا العربية المهترئة.

بعض الإضافات في الألفية الجديدة

واليوم ما الذي تغيّر وقد تقدّم بنا العمر وسقط جدار برلين ودُمّرت أبراج مانهاتن وتم احتلال العراق وأعدم الشهيد صدام حسين ودُمّرت ليبيا وقاومت سوريا ووجّه اللاعب الهادئ زيدان ضربة رأسية مباشرة في صدر ماتيرازي الإيطالي في 2006 انتقاما لشرف أمّه ولعب هنري ليفي بعقول البسطاء والمأجورين واندلعت ثورات ما سمي بالربيع العربي واستبشرنا خيرا برحيل منظومة استنفدت رصيدها في البقاء وعوّضتها منظومة هجينة لم تفعل سوى استبدال الأسماء بالأسماء والخطاب بالخطاب … وظل الوجع هو الوجع والانكسار هو الانكسار ؟

ولكن الاسطوانة المشروخة لم تبرح مكانها في فضاءاتنا العامة والخاصة حيث لا تسمع سوى خطاب “ازدياد منسوب الفقر والتدمير الممنهج لمؤسسات الدولة وارتفاع أرقام البطالة وصعوبة الوضع الاقتصادي وكارثية التداين الخارجي واختفاء المواد الاساسية المدعّمة وتوعّد الفاسدين بالمحاسبة …”

ومع ذلك، ما يزال الأمل قائما تماما في انتفاض التونسيين لإعادة تشغيل جميع ماكيناتهم المعطّلة في المدرسة والجامعة والمستشفى والإدارة والمصنع والبرّ والبحر والنقل والمال والأعمال … ولا يجب أن نقول لقد أضعنا عمرا دون جني فوائد تذكر لأن عشرية وعشريتين وثلاث… لا معنى لها في عمر الشعوب، فقد خبرنا خلالها مسؤولين سامين برتبة خونة ومتسلقين ومتملقين ومفسدين وإرهابيين وأوغاد… وأمثال هؤلاء لن يعودوا مجددا أبدا… وهو مكسب تاريخي في حدّ ذاته. ولأننا قطعنا شوطا مهما على طريق اكتشاف أقبح وأجمل ما فينا والوقوف على من معنا ومن علينا، سنظل متفائلين وواثقين أن غدنا سيكون أفضل من أمسِنا ونُمنّي النفس بفرح أكبر ومستقبل أوفر…

ونغني مع شارل ترينيه ” علينا الاحتفاظ ببعض ابتساماتنا لنهزأ عند الضرورة من أيام لا فرح فيها”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version