خيّرت ليلة العيد – أعاده الله عليكم بالخير و اليمن و البركة – أن أترشّف آخر قهوة رمضانيّة صحبة بعض الأصدقاء قي أحد مقاهي المدينة .. و دون قصد مني استمعت إلى الحوار الدّائر بين الجالسين إلى الطاولة المحاذية فقد كانت أصواتهم طاغية و ضحكاتهم مجلجلة :
و الله عيدنا السنة عيدين … تي راهو عمل اللي ما ينجّم حدّ يعملو و الغنوشي معيّد في الحبس السّنا …
من الأول قلت لكم راهو ڨارح و يستنى في اللحظة المناسبة .. أوكا المنداف طربقعلىبوجلغة و ارتحنامنو و من وجهو ..
حتى بن علي ما قدر كان على جماعتو أما قيسون رتّحنا منو و منهم .. ان شاء الله يكمّل يحلّ الحزب ويدكّهم الكل في الحبس
العاقبة لعبير موسي …زعمة يعملها و يسكت لها حسها من تو و إلا يخليهالنا أضحيّة العيد الكبير ؟؟
مازالت هي و الطبوبي … ان شاء الله نشوفو فيهم نهار .. باش ما عاد حدّ يحل فمّو و يقول قيس ما عندو وين يوصل و ما ينجّمش يشدّ الروس الكبيرة … تي الغنوشي و لطيّف شدّهم … باش يحير في الطبوبي و مولاة الكاسك ؟؟
و هكاكا تو ترجع لنا فلوسنا و تتنفنف الأمور و تتوجد السلع اللي يخبيوا فيها …
مسكين هو نظيف و هوما كلاب حاشاكم ما خلاوهش يخدم …
اغتنمت فرصة خلوّ طاولة في الجانب الآخر و سارعت بالانتقال إليها صحبة جليسيّ فلم أعد قادرة (و أنا التي أحاول أن أدرّب نفسي على التعامل بعقلانيّة و وزن الأمور بمنطق الحقّ و القانون و القيم الإنسانية ، بعيدا عن الأحقاد و الكراهية) على الاستماع إلى هذا النوع من التحليل و إلى هذا الكمّ من الشماتة و التشفي الذي انطلق منذ لحظة مداهمة بيت الغنوشي و إيقافه ومازال متواصلا إلى اليوم ..
إن فكّرنا في ما حدث بهدوء و تروّ، قد ندرك أن ما حدث ليس تطبيقا فعليا للقانون بقدر ما هو لعبة سياسية تقتضيها توازنات المرحلة … فالإيقاف أخذ طابعا استعراضيّا، خاصّة بعد أن فشل القضاء في توجيه اتهامات واضحة للغنّوشي في كل مرة يذهب فيها للبحث في ملفات كان الشعب التونسي يعتقد أنه مسؤول عنها (على الأقل من الناحية السياسية) والتّهمة جاءت على خلفيّة موقف أو تصريح برأي قاله في اجتماع علنيّ، و سمعنا في الفترة السّابقة كلاما أشدّ و أقوى و أخطر مما قاله الغنوشي من كلّ الأطراف دون استثناء فلماذا يحاكم البعض و لا يحاكم الآخرون و هم جميعا يدقّون أسافين الفتنة في جسد هذا الشّعب ؟
و بدل أن تقع محاسبة حقيقيّة نغرق في الشعبويّة و المحاسبات الشّعبية التي تزيد من تسميم الأجواء ومن توسيع الهوّة بين أبناء الشعب و تفقدنا الثقة تدريجيّا في تحقُّق العدالة، خاصّة مع الاستناد إلى قانون الطوارئ لتصفية الخصوم السياسيين و صمت النيابة العموميّة و رفض أجهزة الدّولة إعلامنا بأسباب الإيقافات التي طالت عددا من المعارضين السّياسيين منذ بداية منتصف شهر فيفري الماضي.
و لكن ينسى الشامتون أنّ ” الدنيا دوّارة ” و يغفلون عن أنّ الزّمن “يوم ليك و يوم عليك” و أننا نعيش على إيقاع الشماتة منذ 2011 .. أ لم نهلل حينها لإيقاف عائلة بن علي و أصهاره؟ أ لم نساهم في حملة الديڨاج وفي إفراغ الإدارات من كوادرها ؟ أ لم نصفّق لحلّ حزب التجمّع ؟ فماذا جنينا منذ 2011 إلى اليوم ؟ .. لماذا يرفض الكثيرون منّا أن يدركوا أنه ليس أسهل من تسرب الدكتاتورية إلى البلاد و أننا نخطو نحوها منذ فترة وأنهم بمواقفهم هذه يباركونها و يفتحون لها الأبواب مشرعة ؟ و قد سمعت تصريحا لأحدهم منذ أيام في واحدة من الإذاعات العريقة يقول فيه :”فلتذهب الديموقراطية و حقوق الإنسان إلى الجحيم إذا كان الثمن هو تونس” !! و كأن تونس لا يمكن إنقاذها باحترام القانون و بالحرية و التعددية … و سيكتشف المصفقون اليوم لإغلاق مقرات حزب النهضة و المطبلون لإلغاء نشاطات و اجتماعات بعض الأحزاب أنهم الهدف الموالي و أنهم سيكتوون بنار هذه القرارات يوم تطال أحزابهم و لن يجدوا من يدافع عنهم ..
فمن جمّد البرلمان قادر على تجميد الأحزاب أيضا بما فيها أحزاب المهللين المطبّلين الذين لم يتعظوا من تجربة التسعينات، و يعتقدون أنّ “هذا لا يحصل إلاّ للآخرين” و أنّ سعيّد سيكافئهم على ولائهم الأعمى بالسّماح لهم بالنشاط و يتجاهلون أنّ سعيّد يرفض فكرة الأحزاب و لا يؤمن بوجود الأجسام الوسيطة بين السّلطة و الشعب … و أنّ الأمر ليس استهدافا للنهضة و مكوّنات جبهة الخلاص فقط بل سيطال كلّ الأحزاب و الجمعيات و المنظمات (بما فيها اتحاد الشغل بعد تدجين اتحاد الأعراف و خلق الانقسام داخل اتحاد الفلاحين) و الإعلام الذي انطلقت عمليّة هرسلة أصحاب الأصوات الصّادعة فيه منذ مدّة.
بعد أن لعبت السّلطة ورقة الغنّوشي ، الصّيد الثمين أو الجوكير الذي بقيت محتفطة به طيلة سنة و نصف، لا نعلم أيّة أوراق لتهدئة الرّأي العام و إسكات الشارع مازال لديها و لا نعرف ماهي” الحربوشة ” الموالية (الاتحاد و قياداته أو عبير موسي و حزبها مثلا) لكنّها تبقى مجرّد مسكّنات أو مخدّرات تحقق حالة من الانتشاء لدى البعض لن تدوم إلا أياما قليلة ليصحو الشعب من جديد على واقعه المتردي …
قد يكون سعيّد واثقا من قدرته على السيطرة على الغاضبين و إخراس أصواتهم بفضل إحكام قبضته على مؤسّسات الدّولة و قواتها الصّلبة … وقد يكون منتشيا بعدد أنصاره اليوم الذين يلتفّون من حوله و يزيّنون له التّمادي في إقصاء المعارضين و عدم الاستماع إلى دعوات الحوار و التشارك في اتخاذ القرارات … و هو ينسى أنّ هؤلاء المطبلين عابرون لكلّ الأنظمة و العصور شعارهم ” الدّنيا مع الواقف” فبمجرّد سقوط بن علي انفضّوا من حوله و محَوْا كلّ علاقة لهم بنظامه و ساروا في ركاب غيره .. و بمجرّد إبعاد الغنوشي عن دواليب الحكم اختفَوْا من جواره و لم يعودوا يتهافتون على لقائه و تقبيل أياديه كدأبهم في السّابق .. و هاهم اليوم يبتلعون ألسنتهم و لا يعبّرون عن مساندتهم له في محنته حتّى من باب المبدئيّة و الدفاع عن إرساء دولة القانون التي تكفل للجميع محاكمة عادلة لا انتقامَ فيها … فهل مثل هؤلاء يمكن الاعتماد عليهم ؟؟
و قد يكون سعيد يعوّل على أنّ الشارع منهك كافر بالثورة و نتائجها بعد 10 سنوات من الجدال العقيم، و أنّه يفتقد حاليّا إلى قيادة تمثّل البديل و تقدر على توجيه البوصلة نحو حلّ المشاكل الحقيقية للبلاد … و لكنّه ينسى حقيقة الشعب الذي يصمت طويلا ثم يهدر صوته عاليا دون حاجة إلى قيادة أو تأطير و قد يتأخر الأمر وقد ننتظر سنوات لكن لا شيء يمكن أن يوقف حركة التاريخ.
(ملاحظة: لست مسؤولة عن عديد العبارات التي قيلت في المقهى و لا أتبنّاها فذاك ما قيل حرفيّا ليلتها)