في موكب مهيب حضره رئيس الجمهورية و عقيلته، و جمهور غفير من المواطنين و الدموع تنهمر من أكثر من عينين، ودعت فرنسا أمس فتى سينمائها الأول “جان بول بلموندو” الذي توفي مؤخرا عن سن تناهز التسعين سنة.
كانت بالفعل جنازة وطنية بكل المقاييس … حالة خشوع سادت المكان و الملامح و النفوس و أخبار اليوم، تابوت ملتف بالعلم الثلاثي الألوان، تحمله فرقة من الحرس الجمهوري منطلقة به من قصر “أنفاليد” الرسمي، كلمة مؤثرة و متأثرة من الرئيس إيمانويل ماكرون وجّه فيها تحية حب و إكبار للممثل الأسطورة، و نقل مباشر على جميع قنوات التلفزيون خاصة كانت أم عمومية … يرافق كل هذا عزف من جوق الشرف لموسيقى واحد من أشهر أفلام بلموندو، و إشعار لكل من في العالم بأن الراحل ساكن في قلب فرنسا إلى الأبد …
يزداد هذا الشعور عمقا إذا وضعنا بجانبه قرار نقل رفات المطربة الفرنسية الأمريكية “جوزيفين بيكر” إلى مدفن العظماء في الأسابيع القادمة … و من المنتظر أن يكون الحفل بنفس المهابة و الإجلال لفنانة جريئة كانت لها أيضا مواقف نضالية في إحدى أحلك الفترات التي مرت بها فرنسا … كما حصل في مرار عدة كان فيها المثقف و الفنان رأسمال ذلك البلد الذي احتلّنا و ما يزال، و سلاحه الدائم كان شعار: “صحيح لا نملك بترولا، و لكنّ لنا أفكارا” … و هو الشعار الذي ساد هناك خاصة بعد الحظر النفطي الأوّل الذي أعلنته الدول العربية خلال حرب أكتوبر 1973.
تشاهد هذا، و تتذكر و في القلب غصة ما يحدث عند وفاة كثير من فنانينا الذين ندفنهم في شبه سرية و كأننا نخفي معالم جريمة … رغم أن فيهم كثرة ممن أمتعونا و صنعوا أحلامنا و رافقوا ليالينا و أيامنا على فقر أغلبهم الشديد … رحلت العظيمة دلندة عبدو و كأن الراحلة كانت جارتنا خالتك حنيفة … ودّعنا أسطورة صغارنا و كبارنا، أو “السبوعي الوطني” سفيان الشعري كما نودّع قطّا دهسته سيارة مستعجلة … حاتم بالرابح (ذاك الممثل الفائض موهبة) رافقه إلى مثواه الأخير ثلاثة أجوار أو أربعة لأجل الثواب لا غير … و يطول الحديث ليشمل قامات في حجم حمدة التجاني، و أحمد السنوسي، و الزهرة فايزة، و خديجة بن عرفة، و خديجة السويسي، و السيدة نعمة، و زهيرة سالم … و رحم الله و تغمّد بمحبّتنا من ذكرت و من لم أذكر.
و أكبر وجيعة أحسسنا بها على فنان تونسي رغم كثرة مواجعنا عليهم … أكبرها ما حصل للكوميديان العملاق الهادي السملالي الذي توفي سنة 1991 … إذ عبّر الفقيد في مرضه الأخير، عن رغبته في أن تخرج جنازته يوم يحين حينها، لا من قصر الأنفاليد، و لا من قصر قرطاج، و لا من قصر باردو، و لا من قصر الدهشة، و لا حتى من قصر البلدية … فقط تمنّى السملالي أن يخرجوا به من المسرح البلدي … ذلك البيت الذي كان ممثلنا الكبير أحد بُناته و مالئيه صخبا و طربا و ضحكا و بكاء و مآسي و كل ما جادت به قريحة مدراء فرقتنا الأولى من زكي طليمات و حمّادي الجزيري و علي بن عيّاد إلى من جاؤوا بعدهم …
و مع ذلك … رُفض طلب الهادي السملالي و وقع تجاهل آخر أمانيه، و لو سألْت وقتها ـ و حتى اليوم ـ عن سبب الرفض و التجاهل، يطلع لك دائما بعرور مّا … ليقول لك هذه العبارة التي صارت تعمّم الباطل لا الحق: “و هل هو على رأسه ريشة؟”