التقيت صديقا يعيش بباريس صحبة جميع أفراد عائلته، سألته عن حاله وأحواله فقال: متعب أخوك متعب…قلت: وما سبب كل هذا التعب؟ قال: حفيدي يا صديقي، حفيدي…
استغربت الأمر واضفت: كيف ذلك؟ قال: يطلب مني حفيدي كل ليلة ان اروي له حكايات عن وطننا…رويت له كل القصص التاريخية التي أعرفها…وتلك التي قرأت البعض منها، ولم أبخل عنه بقصّة واحدة أعرفها…أخيرا بعد أن أكملت كل ما أعرفه عن قصص تاريخ بلادي رويت له قصّة الرجل المحتال وسكان المدينة…فأصبح يعيش كابوسا مرعبا خطيرا…فكل ليلة يطلب مني أن اعيد له قصّة المحتال…وكل ليلة اصبح يصرخ في منامه ويقول ” لا لا ما نحبش نروح لبلادنا…” قلت لصديقي: وما حكاية الرجل المحتال وأهل مدينته؟ قال: أتريد سماعها؟ قلت: نعم إن أمكن ذلك طبعا… وبدأ يسرد على مسامعي القصّة وأليكم ما روى…
“هاجر محتال وزوجته إلى مدينة اشتهرت بسذاجة سكانها …خرج الزوج المحتال في يومه الأول بمدينة السذّج واشترى حمارا وملأ فمه ببعض القطع النقدية الذهبية، ثم أخذه إلى حيث الازدحام في سوق المدينة وبطريقة لا يعرفها غيره والحمار، نهق الحمار وكأنه أُمِرَ بذلك، فتساقطت القطع النقدية من فمه… استغرب جميع من هم حوله واستفسروا منه عن الأمر فقال لهم انه كلما نهق الحمار إلا وتساقطت من فمه القطع النقدية الذهبية…
استغرب الجميع أمر الحمار وعرضوا على المحتال بيعه بمبلغ كبير لم يخطر على بال المحتال، قبل هذا الأخير الأمر وباع الحمار لكبير التجّار…عاد كبير التجّار بالحمار إلى منزله على أمل ان ينهق وتتساقط من فمه القطع الذهبية، لكن شيئا لم يقع من ذلك…فالحمار نهق كثيرا ولم يسقط من فمه شيء…فعرف كبير التجّار أنه وقع ضحية نصب من الرجل المحتال واسرع مع بعض سكان المدينة نحو منزل هذا الأخير ليسترد ماله ويعيد الحمار إلى صاحبه، لم يجدوا المحتال بالمنزل فسألوا زوجته عنه فقالت لهم ان زوجها غير موجود بالمنزل لكنها سترسل الكلب ليأتي به حالا…
كان الأمر كذلك. أطلقت زوجة المحتال الكلب الذي كان محبوسا لهذه الغاية فانطلق هاربا من المكان، ولم يمر كثير من الوقت حتى عاد الزوج المحتال رفقة كلب يشبه كثيرا الكلب الذي أطلقت زوجة المحتال سراحه…استغرب كل من هم هناك من أمر الكلب وفطنته ونسوا أنهم جاؤوا من أجل إعادة الحمار إلى المحتال فانطلقوا في مفاوضة المحتال عن بيع الكلب…قبل المحتال ببيع كلبه مقابل مبلغ كبير لأحد الذين حضروا مع كبير التجّار، أخذ الشاري الكلب وقصد منزله وأوصى زوجته بأن تطلق الكلب حين يكون هو في عمله ليُحْضِره، فعلت الزوجة ما أمرها به زوجها وأطلقت الكلب الذي هرب متمتعا بحريته من جديد…ولم يذهب لإحضار الشاري كما ظنّ الجميع…
تفطّن شاري الكلب أنه وقع أيضا ضحية نصب واحتيال الرجل المحتال، جمع معه بعض الرجال ممن حضروا شراء الكلب وقصد منزل الرجل المحتال وزوجته ودخلوا بعد أن كسروا الباب الذي وجدوه مغلقا…وكالمرّة الأولى لم يجدوا بالبيت غير زوجة المحتال فقرروا انتظار زوجها إلى أن دخل عليهم فجأة، وقال لزوجته: لماذا لم تقومي بواجب الضيافة لهؤلاء الضيوف يا امرأة؟ فنظرت إليه زوجته وأجابته بغِلظة: إنهم ضيوفك وليسوا ضيوفي…تظاهر المحتال بالغضب وأخرج سكينا مزيّفا من النوع الذي يدخل فيه النصل بالمقبض من جيب سرواله وطعن زوجته في ظهرها حين حاولت الهروب وفي مكان أخفت فيه تحت ملابسها بالونا صغيرا ملأته بحبر أحمر اللون شبيها بالدم، تظاهرت زوجة المحتال بالموت ومسك الجميع بالرجل المحتال يريدون اخذه إلى أقرب مركز للشرطة فقال لهم: لا تقلقوا لقد قتلتها عديد المرّات وأعدتها إلى الحياة بمزماري هذا وأخرج مزمارا من جيبه ونفخ فيه مرتين فقامت زوجته على الفوز ضاحكة مبتسمة مليئة بالحياة…واسرعت وأعدّت عصير برتقال لجميع من هم في البيت في حالة ذهول قصوى…وكما وقع في المرّة السابقة نسي الجميع حكاية الكلب وانطلقوا في التفاوض مع الرجل المحتال على شراء المزمار، وكان لهم ذلك، وكان المزمار من نصيب أحد اكبر التجّار ودفع ثمنه غاليا اضعاف ما تمّ دفعه في الكلب وفي الحمار…
عاد شاري المزمار إلى منزله وحكى لزوجته عن المزمار ثم اخذ سكينا من مطبخه وطعنها في صدرها طعنة قتلتها على الفور، ومسك المزمار وبدا يعزف …يعزف …عزف طويلا وفي كل النغمات والمقامات ولم تعد زوجته إلى الحياة، دفن زوجته خلسة حين تأكد من موتها ولم يعلم أحدا… في الصباح سأله من حضروا معه عملية شراء المزمار عمّا وقع معه في أمر المزمار فخاف أن يقول لهم حقيقة ما وقع، وادعى أن المزمار يعمل وأنه تمكّن من إعادة الروح إلى جسد زوجته بعد طعنها، استعار الحاضرون المزمار وقتلوا زوجاتهم جميعا ولم ينجحوا في إعادتهن إلى الحياة، وقرروا جميعا التخلّص من الرجل المحتال بعد ان فعل بهم ما فعل، فهاجموه في منزله ووضعوه في كيس وأخذوه قاصدين أبعد بحر ليلقوه فيه…
ابتعدوا كثيرا، بحثا عن بحر عميق بعيدا عن أنظار الناس حتى أدركهم التعب والنوم فجلسوا للراحة فناموا، استغل المحتال أمر نومهم ليطلق عقيرته بالصراخ من داخل الكيس الذي سجن فيه، سمع أحد الرعاة صراخه فجاءه مسرعا يسأل ما الأمر، فقال له المحتال أن هؤلاء يريدون تزويجه من ابنة كبير التجّار في المدينة وهو لا يريدها لأنه يحب ابنة خاله ولا يقبل بالزواج من غيرها، ثم أضاف هل تريد انت أن تأخذ مكاني فيزوجوك ابنة كبير التجّار فتكسب كثيرا، وافق الراعي بعد أن اقنعه المحتال بأنه أمام فرصة لن تعاد ابدا ودخل الكيس عوضا عنه واخذ المحتال أغنام الراعي وعاد إلى المدينة…
استيقظ التجار من نومهم وألقوا الكيس بالبحر دون أن يتفطّنوا إلى ان المحتال خرج منه وقصدوا مدينتهم…وهم في مدخل المدينة اعترضهم الرجل المحتال ومعه ألف رأس من الغنم وهي تلك التي كانت على ملك الراعي، قبل ان يلقوا به في البحر عوضا عنه…استغربوا أمره ودخلوا في حالة ذهول…وسألوه ما الحكاية؟ فقال لهم أنه وبعد أن رموه بالبحر خرجت حورية وأنقذته وأعطته ذهبا وفضّة وقطيعا من الأغنام واوصلته الشاطئ ودلّته على طريق العودة…وأخبرته انه غير محظوظ فلو رموه بمكان أبعد عن الشاطئ لتلقفته أختها الأكثر منها ثراء ولأعطته عشرين ألف رأس من الأغنام…ذهل جميع من استمعوا إلى القصّة وانطلقوا مسرعين إلى البحر وألقوا بأنفسهم جميعا بعيدا عن الشاطئ فغرقوا جميعا وماتوا…وبقي الرجل المحتال وزوجته ملكيْن على المدينة ومن فيها…وما فيها…”
نظر إلي صديقي بعد ان أكمل سرد الحكاية…وقال: ما رأيك؟ قلت وأنا في حالة ذهول قصوى: وكأني أعرف هذا الشعب الذي في حكايتك…أنا أيضا لا أقبل أن أعود إلى بلادنا إن كان محتال كما الذي بحكايتك يحكمها…وسقط صديقي مغشيا عليه متمتما أمرا لم اعرف ما يعنيه، وبعد أسبوع علمت أنه أوصى بدفنه خارج أرض البلاد…خوفا من ألا يأتي حفيده لقراءة الفاتحة على قبره…حين يكبر…قلت في خاطري …رحم الله صديقي…وانطلقت في ترديد…”يا بهيّة خبريني يا عيني عاللي قتل ياسين…”…