أظنّ أن أغلب القراء العرب يعرفون قصّة الزعيم الماليزي مهاتير محمد وما أتاه في حفل تخرّج مدارس “كوبانج باسو” في ماليزيا سنة 1974، ولمن لم يقرأ القصّة أرويها لكم بإيجاز فنحن نعيشها بشكل آخر في هذا البلد الموجوع...
حلّ مهاتير محمد ضيفا على حفل تخرّج مدارس كوبانج باسو في ماليزيا، وأثناء الحفل طلب إلقاء كلمة بالمناسبة فوقف مخاطبا المدرسين وقال “سادتي أريدكم أن تشاركوا جميعا في لعبة الحفاظ على البالون، وستكون من نصيب الفائز منكم جائزة قيّمة” استغرب الحضور من طلب مهاتير وسألوه عن هذه اللعبة وما الهدف منها… قاطعهم الرجل قائلا وهو يوزّع بالونات ملوّنة على كل المدرسين المشاركين في اللعبة “على كل مدرّس منكم نفخ بالونه ثم ربطه بأسفل رجله، ومن يحافظ منكم على بالونه سليما سيكسب الجائزة. سأعطيكم من الوقت دقيقة واحدة”. نفخ جميع المشاركين من المدرسين بالوناتهم وربطوها بأسفل أرجلهم وحينها أعلن مهاتير محمد بدء اللعبة…انقضّ المشاركون على بعضهم البعض يركلون أسفل أرجلهم بهدف تفجير بالونات بعضهم البعض… ونجحوا في تفجير بالوناتهم جميعا ولا أحد منهم حافظ على بالونه سليما…
ضحك مهاتير محمد ونظر إليهم ساخرا وحازما ومستغربا في نفس الوقت وقال “لم أطلب منكم أن تهاجموا بعضكم البعض ولا أن تركلوا بعضكم البعض وتفجروا بالونات بعضكم البعض بل طلبت من جميعكم فقط الحفاظ على بالوناتكم سليمة…جميعكم اخترتم السوء لبعضكم البعض ولا أحد منكم فكّر في مصلحة الجميع بالحفاظ على جميع البالونات… ألا يمكن الحفاظ على بالوناتكم دون تفجير بالونات الآخرين ؟؟ وكأن الحفاظ على بالونكم يمرّ حتما عبر تفجير بالون غيركم، ألم يكن من الأجدر ان تقفوا في اماكنكم جميعا وتحافظوا على بالوناتكم سليمة جميعا؟؟ لماذا أسأتم التفكير واخترتم الحلّ الأسوأ الذي أساء لكم جميعا… لا أحد منكم اليوم نجح في الحفاظ على بالونه، فماذا كسبتم بتفجير بالون الآخر؟؟ هل حافظتم بذلك على بالونكم؟؟ لا…خربتم كل شيء…كل شيء”…
ونحن في تونس ماذا فعلنا…أظنّ اننا لعبنا جميعا لعبة “فشّان العجالي” لبعضنا البعض…فجميعنا انطلقنا ليلة الخامس عشر من جانفي 2011 ومباشرة بعد ان علمنا بسفر بن علي لأداء مناسك الحجّ والعمرة، في حملة “فشّان عجالي” بعضنا البعض ولم نترك “عجلة” واحدة من عجلاتنا وعجلات الدولة والوطن سليمة…فخرجت الاعتصامات تجوب المدن والقرى وتغلق المؤسسات ومواقع الإنتاج …فلم يعتصموا بحبل الله جميعا كما وجب أن يفعلوا بل اعتصموا بحبل بعضهم ضدّ بعضهم البعض …فخرّبوا كل شيء اعترض سبيلهم…نسينا العاطلين والمعطلين وغيرهم ممن صرخوا طويلا بشعارات كانوا ينتظرون جني ثمارها…فخرج عليهم مغول العصر وتتاره وموظفو الدولة وجميع القطاعات يطالبون بالزيادات وتسوية الوضعيات وتنفيذ مرسوم العفو التشريعي العام…فخيّرت كل الحكومات الحفاظ على مواقعها بالانصياع لمطالب ما أقرّته “ماكينة” ساحة محمد علي التي أرادت بما أتته أن تفرض نفسها وصيّة على الدولة والشعب والوطن مفاخرة طويلا وبصوت عال أنها هي حاضنة الحراك ومن يسمونها “ثورة” وانقضّت على المؤسسات تطرد القائمين عليها بدعوى أنها موالية للمنظومة القديمة فضاعت كل الكفاءات في غياهب “التفقديات” التي تلعب دور “الثلاجات” المؤسساتية تحت شعار “ديقاج يا خمّاج”…وجاءت حكومة الباجي الأولى بعد ليلة بكى فيها محمد الغنوشي خوفا على البلاد والعباد…
أقول جاءت حكومة قائد السبسي بعد أن أخرجوه من أرشيف البلاد ليحكم في العباد فــ”فشّوا لها” كل عجلاتها…وذهب كل ما تركه بن علي من أموال في خزينة الدولة لدفع الزيادات وإرضاء الخارجين عن الدولة والقانون والمعتصمين بأبواب المؤسسات ومواقع الإنتاج لتنتفخ كتلة الأجور إلى ضعفي ما كانت عليه قبل ليلة سفر بن علي رحمه الله…ثم جاءت حكومات النهضة لترضي الغاضبين من أتباعها بانتدابهم وتسوية وضعياتهم حتى سنّ التقاعد…وكالعادة لا أحد من الاتحاد والحكومة والأحزاب فكّر في العاطلين عن العمل وفي المعوزين وفي المهمشين وفي الفقراء والمساكين…جميعهم وإرضاء للغاضبين من المعتصمين والمضربين والمعطلّين لآليات الإنتاج والمغلقين لمواقع الإنتاج دفعوا بالتي هي أحسن زيادات في الأجور وتسويات في الوضعيات وهدايا ثمينة عبر خطط وظيفية دون موجب ودون مقاييس شعارهم في ذلك “اعطهم ألف درهم يا علي”…وقبله كان الشعار “أعطهم ألف دينار يا حمادي”…
فوقعت استمالة اغلب موظفي الدولة من القطاعات الهامة إلى الحكام الجدد الخارجين من السجون للجلوس على كراسي الحكم وخنقت كل مفاصل الدولة والحكم وتحوّلت من الكفاءات إلى من أعلنوا البيعة والولاء للحكام الجدد خوفا على مصيرهم ومستقبلهم المهني…جميعهم لم يقرؤوا حسابا للدولة وللشعب وللوطن…جميعهم “فشّوا عجالي جميعهم”…ثم جاءت حكومة اعتصام الرحيل…حكومة المهدي جمعة لتنال نصيبها من الإضرابات والاعتصامات طبعا ليس بحبل الله لكن بخراب البلاد وتجويع العباد…وغلق مواقع الإنتاج…ومفاوضات الزيادة في الأجور…والتسميات بالمئات…هكذا أيضا نسينا مرّة أخرى العاطلين…والمهمشين والفقراء والمساكين…نسينا الوطن…والشعب والدولة التي تئن…
ثم جاءت الانتخابات الأولى والحكم التوافقي…فبدأ “فشّان العجالي” عبر مجلس لا دور له غير “الفشّان” و”الهزّان والنفضان” فلم تسلم أية حكومة من حكومتي تلك العهدة من “فشّان العجالي” ومن الخروج عن النصّ النقابي…فتجاوز عدد الإضرابات مئات الآلاف…وذبحت الدولة من الوريد إلى الوريد …واصبح ساكن ساحة محمد علي الحاكم بأمره وسلطان زمانه…فلا احد يمكنه تحريك حجر واحد من دار الباي أو من غيرها من مؤسسات الدولة دون تأشيرة ساكن ساحة محمد علي…وكالعادة لا أحد فكّر في من ينتظرون جني ثمار ما فعلوه حين جابوا البلاد طولا وعرضا يصرخون “شغل …حرية …كرامة وطنية” فلم يجنوا غير الإحباط والياس …والموت غرقا في المتوسط…
تواصل أمر “فشّان عجالي” كل الحكومات التي تداولت على “نفخ عجالي البلاد” بعد انتخابات 2019…إلى حدود مساء يوم 25 جويلية 2021 حين استفاق الشعب على حدث غريب يحدث لأول مرّة في تونس، عجلة دار الباي بالقصبة “مفشوشة” ومرمية جانبا ولا أحد يعلم اين هي…وعجلة “قصر الباي بباردو” مفشوشة ومرمية أمام الباب الخارجي دون حراك… ثم تواصلت الحملة الواسعة لــ”فشّان عجالي” مكونات كل المشهد السياسي الذي سبق 25 جويلية 2021…ولم تبق غير عجلة واحدة يقول البعض أنها من فئة عجلات الـــTubeless …لكن هل فكرتم في الوطن وكيف سيعبر إلى المستقبل…؟؟ فهل يمكن للوطن أن يعبر بعجلة واحدة طريقا مزروعة بالأشواك في زمن صعب كهذا الذي يعيشه كل العالم بعد وباء الكورونا وبعد حرب روسيا وربيبتها أوكرانيا…أم أن جميعكم تفكّرون في النوعية الجديدة التي ستنتجها ميشلان خلال الأشهر الأخيرة لسنة 2024 والتي يسمونهاMICHELIN Uptis وهي من الإطارات غير القابلة للثقب…والمستعملة لتقنية الـــAirless…ألا يكفينا “فشّان” …ألم يحن وقت “نفخان” في روح وطن موجوع يتألم…