إنّ ما عاشته تونس الأسبوع الماضي بمناسبة الكأس العربيّة يؤكّد تعطّش هذا الشعب إلى الفرحة و السّعادة أو كما قال أحدهم تعقّبها في كلّ مكان في الأرض والجوّ و البحر، و يوضّح سعيه إلى أن ينسى الخيبات و يعيش و لو لساعات معدودات بعيدا عن التأزّم و الكآبة و التّوتّر التي يسبّبها له الوضعان الاقتصادي و السياسي ، ويحيل على رغبته في الالتفاف حول معنى يجعله يشعر بوجوده وقيمته ..
و قد نجح الفريق الوطني – رغم كلّ المشاكل و الأقاويل التي أحاطت بمشاركته – في توحيد الشعب و لو لمدّة ساعات قصيرة و في جعله يشعر بفخر الانتماء إلى هذه البلاد …
هذا الشعور الذي صار مفقودا بل يكاد يكون منعدما في الفترة الأخيرة إذ لم يعد لتونس موقع و لا مكانة في المحافل الدّوليّة و خسرت ما كان لها من أهمّية دبلوماسية (و لعلّ الكثيرين منّا يذكرون وقوف تونس البورقيبية إلى جانب الشعب الفلسطيني و نجاحها في إيقاف الفيتو الأمريكي إثر الاعتداء الإسرائيلي على حمّام الشطّ و يذكرون كذلك موقف بن علي من الحرب الأمريكية على العراق في التسعينات) … هذه النّخوة التي بنى بها بورقيبة الدّولة الوطنية و وحّد الشعب الذي كانت تتحكّم فيه النزعة العروشيّة و القبليّة فجعل للجميع حلما مشتركا، و واصل بن علي على نفس النّهج و إن بطريقة أقل تجذّرا و تعمّقا … و لكننا منذ أكثر من عشر سنوات صرنا نفتقد الحلم المشترك و الشعور بالعزّة و إن توفرت مقوّماتهما لكن دون توفّر الإرادة القادرة على تجسيدهما.
لم يعد التونسي يشعر بأنّ لجواز سفره أهمّية و لا قيمة و أو بأنّ لبلاده أي وزن في المنطقة و في القضايا الدّولية و لا أية أهمّية عالمية، بعد أن تقهقرت المؤشرات السياحيّة و الاقتصاديّة و الثقافيّة و العلميّة، وتراجعت موارده و تفاقمت ديونه و صار عرضة حتّى لاستهزاء الشّعوب المجاورة و بات أقصى حلمه الحرقة أو الهجّة من هذه البلاد …
هذا الشعب وجد نفسه في صورة حنبعل المجبري الشاب الذي يعطي بلا حدود ولا حسابات، فالوطنية عنده فعل على الميدان و ليست شعارات جوفاء … صحيح أنّه لا يحفظ النشيد الوطني و لكنّه يحمل الوطن في قلبه … التوانسة رأوا فيه المستقبل، نموذجا للطاقات الشابة ، تجسيدا للإيمان و الفخر بالإنتماء، شعروا بأنه حفيد حنبعل الحقيقي و بأنهم أبناء قرطاج العظيمة قاهرة روما.
هذا الشاب استطاع في فترة قصيرة أن يحوز على إجماع التونسيين وأن يستحوذ على قلوبهم و عقولهم في آن واحد، دخل القلوب بفضل دماثة أخلاقه و تواضعه و ثقته الكبيرة بنفسه و عقليّته الانتصاريّة و حبّه اللاّمشروط لتونس و استبساله في الدفاع عن رايتها و نكرانه لذاته و دفاعه عن المجموعة.
آمن حينها التونسيون بأنّ التّألّق ممكن و بأنّه بإمكانهم الفخر بانتمائهم إلى هذا الوطن الذي يظنّه البعض صغيرا لكنّه كبير بتاريخه التليد و خيراته و طاقات شعبه … فقط لو يجد الشعب من يساعده على تحقيق حلم مشترك و من يحرّك فيه جذوة الشعور بالانتماء ..
تونس في حاجة إلى قائد ملهم قادر على توحيد الشعب حول حلم مشترك، قائد لديه رؤية لتونس بعد عشرات السنين، قائد قادر على التحليل و الاستشراف و على وضع الخطط و التصوّرات المستقبليّة، قائد يشجّع الشعب على الحلم و الأمل و ينمّي فيه روح الانتماء و يغرس الوطنيّة الحقيقية ، قائد يوحّد و لا يفرّق، يجمّع و لا يشتّت، قائد يعطي المثال في الاهتمام بأصحاب الكفاءات (لا أهل الولاءات) و يوليهم المكانة التي يستحقونها، قائد يؤمن بدور الطاقات الشابة و الذّكاء الوطني في قيادة المستقبل، قائد يجيد خطاب البناء و يؤكّد على أهمية الجهد و العمل و المبادرة و الابتكار .. قائد يحسن استثمار موارد البلاد و هي متنوّعة و زاخرة، قائد يركز على الخصائص الجغرافيّة و الطبيعيّة و يجيد توظيفها فقلّة هي البلدان التي تجمع بين جمال البحار و الغابات و ثراء الصحاري و السهول …
نحن في حاجة إلى قائد يركّز على الخصائص التاريخية و يبني مشروعا تربويّا ثقافيّا فيعيد بناء أمجاد الماضي ويحيي تاريخ قرطاج و يجعل التوانسة يفخرون بأسلافهم مثلما يفخر المصريون بجذورهم الفرعونيّة و يفخر اليونانيون بجذورهم الإغريقيّة في حين أنّ بعض أطفالنا لا يعرفون عن حنبعل غير اسم القناة التلفزيّة و لا عن قرطاج غير اسم لمهرجان صيفي … قائد يركّز على الخصائص البشريّة و يستثمر في ذكاء أبناء شعبه ويساعد المتفوقين منهم على البقاء في تونس و الاستثمار في تونس حتى تغزو علامة صنع في تونس أو أنتج في تونس العالم و تصير مصدر فخر و اعتزاز … قائد يحسن التسويق لصورة البلاد و يعرف كيف يستغل الحماسة الرياضيّة ليجذّر الشعور بالانتماء و حب الوطن و يؤكد على قيمة البناء و العمل و بذل الجهد … قائد يعزف سمفونية نجاح و يعرف كيف يجعل في كلّ ميدان و مجال “حنّبعلا صغيرا” يخفق قلبه بحبّ البلاد و يسقي أرضها بجهده و عرقه و لا يبخل عليها بعزمه و إرادته …
التوانسة في حاجة إلى حنّبعل جديد لا يهاجم روما و لا يعبر جبال “الألب” و لكن يهاجم عقليّة التواكل والكسل و يلتفّ على كلّ العراقيل التي تعطل نهوض البلاد و حينها سيتطور النّاتج الدّاخلي الخام و ستتطوّر معه سعادة كلّ التونسيين …