وهْجُ نار

حوار مثير، مع أحد أبناء تونس البررة … من الحمير !

نشرت

في

كنت في طريقي إلى المنزل لما اعترضني حمار جاري ضو قبالة زريبة “عمّ ضو” باكيا يكاد نهيقه يصل السماء…استغربت الأمر فالحمير لا تعاني ما نعانيه نحن البشر…ولم تعش انقلابا من المنظومة على بعضها…ولا تنتظر تشكيل حكومة، ولا خلاص ديون، ولا مفاوضات مع صندوق النقد الدولي…بل تعيش استقرارا صحيا واجتماعيا وسياسيا…تأكل صباحا…لتعيش وتعمل…فالحمير ليسوا كالبشر هم يأكلون ليعيشوا وليعملوا، ونحن نعيش لنأكل…

<strong>محمد الأطرش<strong>

حمار جاري هذا مستقيم وصاحب خلق رفيع لم أره يوما يعتدي على زميل له أو يراود أتان “عم خليفة” التي عرفت في الحي بسوء سلوكها، وجريها اليومي خلف شباب الحمير، رغم أن الجميع يعلم أنها أنجبت مرتين دون رسم زواج من حمار العمدة “عم نزار” ودون موافقة صاحبها…اقتربت من أذن حمار “عمّ ضو” وسألته بصوت خافت “ما خطبك يا صديقي العزيز لا تقل لي إنك عاشق أو على خلاف مع “عمّ ضو؟” نظر إلي وطأطأ رأسه وقال ناهقا “لا يا صديقي أنت تعلم أني لا أرغب في الارتباط أصلا وأن لي صديقة التقيها مرّة في السنة عند موسم الحصاد”…قلت: “ما بك إذن؟” قال باكيا …” يقال إن موجة الايقافات وتحجير السفر والوضع تحت الإقامة الجبرية قد تطالنا نحن معشر الحمير أيضا”…ضحكت وأجبته: “لا أظنّ يا صديقي فأنت لم تسرق ولم تغتصب ولم تتزوج دون رسم صداق ولم تنضم أصلا إلى أي حزب وصاحبك “محتحت” لا يملك شيئا غيرك وبعض الدجاجات البائرات…

رمقني بنظرة حزينة وقال “هم يعرفون أني حملت كثيرا من البضائع المهرّبة على ظهري وأن “عمّ ضو” عمل كثيرا بالتهريب سنوات السبعين أيام كان الجنيه الليبي بأربعة دنانير تونسية أفهمت ما أعنيه عشيري”. قلت: “ومن أدراك أنهم يعلمون؟” أجابني ناهقا: “نعم يعلمون فبعض الحمير هم من المرتزقة، ويأكلون من كل الموائد كتبوا تقارير عن تلك المرحلة وسلموها للعمدة وقد يجدونها في الأرشيف.” أجبته ضاحكا: “لا تهتم يا صديقي لا أظنهم سيعودون إلى أرشيف تلك السنوات …ثم أنت لم تكن مولودا حينها صديقي، فكيف تزعم أنك حملت على ظهرك بضائع مهرّبة؟” أجاب: “صحيح لم أكن مولودا لكن لا تنس أني حمار ابن حمار بن حمار وقد يُعَاقبُ الجميع الآباء والأجداد والأحفاد ولا أظنهم سيعملون بما قاله الله “لا تزر وازرة وزر أخرى”…إني أعيش خوفا رهيبا ورعبا كبيرا يا صديقي، فأنا لن أتحمّل العيش تحت الإقامة الجبرية لمدّة تفوق اليوم الواحد”. نظر إلي وقال: “اجلس إلى جانبي نتحدث في شأنكم يا صديقي…جلست ضاحكا وقلت: وهل تتابع أوضاعنا نحن البشر يوما بيوم يا “عشيري”…نظر إلي وقال”ڨعمِزْ !”…

جلست وقلت “أنا أستمع إليك هات ما عندك؟” تنهّد طويلا ثم انطلق في حديثه السياسي عن البلاد والعباد وقال: أتدري يا صديقي أنكم لم تتعلموا من أخطائكم…أتدري أن وضعكم اليوم يعتبر أخطر الأوضاع التي وصلت إليها البلاد وقد تصل البلاد إلى نقطة اللاّعودة، و والله إني أخاف أن تصل الفوضى إلينا نحن الحمير وقد نضطرّ إلى مغادرة البلاد، وطلب اللجوء عند بلدان الضفّة الأخرى…نظرت إليه مستغربا من قدرته العجيبة في الحديث وقلت: وما رأيك أنت في ما يقع بالبلاد وأنت منها ومن حميرها سكان البلاد الأصليين إلى جانب البشر طبعا؟ قال: أظنّ أن الوضع في تونس سيكون كالوضع في لبنان في قادم الأشهر وربما في قادم الأسابيع…قلت: يا لطيف…وأضاف: عاشت تونس منذ تغيير النظام السابق وأقصد نظام بن علي رحمه الله حالة غير مسبوقة في تاريخها المعاصر، من حيث انعدام الامن، وسيادة الفوضى، وتوسع رقعة الاحتجاجات الاجتماعية، وعدم استقرار الوضع السياسي والحكومي، فتونس لم تعرف كل هذا العدد من الحكومات منذ استقلالها، وزاد استفحال الوضع الصحي وانتشار الوباء من صعوبة الوضع في البلاد، فتونس اليوم تعيش مآسي قاسية وانهيارا غريبا وغير مسبوق من الناحية الاقتصادية فثلث سكان البلاد يعانون من فقر مدقع بحسب احصائيات رسمية تحاول بعض المؤسسات طمسها…

نظر إلي مرّة أخرى وسألني أتريدني أن أواصل؟ قلت طبعا…قال: شريطة أن يكون الأمر بيننا ولا أحد يعلم بما حدثتك به فأنتم اليوم عدتم إلى حكم الفرد الواحد ولا أظنّ أنه سيسمح بنقد ما يحصل بالبلاد، أو بمعارضة من سيحكم ..قلت: تحدّث ولا تهتمّ، ساكن قرطاج ديمقراطي “في الدم” ولن يأبه لحديث نقدي وتحليلي عن أوضاع البلاد ما لم يكن افتراء أو هتكا للأعراض” …ابتسم وهو ينظر إلى وجهي وقال ” المرناقية لا… “…فاكتشفت لأول مرّة أن صديقي يعاني من تسوّس في أسنانه الأمامية…ثم واصل الحديث ليقول: يا صديقي أنت تعلم أني على الحياد من كل ما يجري في البلاد، وأني لم أنتخب منذ خروج بن علي من البلاد…وهذا الحياد قد يجعلني قارئا جيدا للمشهد السياسي الذي تعيشه البلاد…وكل محايد قد ينتهي الى نتيجة منطقية مفادها ان شعبا بهذه الدرجة من التمزق والانكسار والانقسام لا يزال متمسكا بالتغيير نحو الأفضل، ولا يزال يأمل في أن يكون ديمقراطيا، لا يمكن أن يكون هو مصدر الفشل الذي تعيشه الدولة والذي عاشته كل الحكومات المتعاقبة منذ عشر سنوات،

فالفشل يعود فقط إلى مجموعة من السياسيين الذين وجدوا انفسهم من غير سابق تخطيط في مواقع الصدارة، وبالتالي في مواقع السلطة والنفوذ وهم لا يفقهون شيئا منها، وهذا ما وقع مع حركة النهضة، ومن كانوا معها في ترويكا الخراب…وما تعيشه البلاد اليوم هو من تبعات فشل النهضة ومن معها في إدارة شؤون الدولة خلال سنوات حكمها…فالفشل يتبعه الفشل حين يكون مرتبطا بطرف غير عارف بشؤون الدولة لم يغادر الحكم منذ ذلك الوقت…لكن فشل النهضة ومن معها وفشل كل من جاؤوا معها بعد حكم الترويكا مرتبط أيضا وبنسبة كبيرة وكبيرة جدا بما أتته النقابات، وما تعرضت له عديد المؤسسات الوطنية الكبرى من تخريب ممنهج من قيادات الاتحاد السابقة والحالية …وعلى من يريد وضع أسس صحيحة للخروج بالبلاد مما هي فيه، أن يضع نصب أعينه أن الاتحاد ليس شريكا في الحكم ولا يجب أن يكون كذلك كما يتصوّر البعض، بل هو أداة تعديل ودوره اجتماعي بحت لا يجب أن يتخطاه ويتجاوزه إلى دور لا صلة له بدوره…ضحكت واستغربت ووقفت مصفقا لصديقي الحمار، كيف لا وهو الذي حدثني كما لم يحدثني به “كرونيكارات” بعض قنوات تصريفنا الإعلامي …

رفعت قبعتي للحمار وقلت له “كيف علمت بكل هذا ومن حدثك بالأمر؟” قال ضاحكا: ” نحن معشر الحمير نؤمن كثيرا بالاتصال والتواصل ونشر المعلومة على أسس صحيحة، ولا ننساق وراء بيع وشراء الذمم كما يقع في قطاع الإعلام عندكم …نظرت إليه وأنا في غاية الدهشة مما قال وقلت: وما الحلّ يا صديقي وأنت تعلم بحالنا أكثر مما نعلم نحن؟؟ قال: مهلك علي سأخبرك بما أعلم وسأعلمك بما يجب أن تعلم… حرّك ذيله يمنة ويسرة ثم نظر إلى وقال: ” لا أظنّ شخصيا أن الشعب التونسي وصل درجة لا يمكنه معها تخطّي هذه الصعاب للخروج من أزمته، الشعب التونسي قادر على رفع التحديات لو توفر على طبقة حاكمة رشيدة تقدم مصلحة البلد العليا على مصالحها الذاتية…قلت: “وهل تونس اليوم تتوفر على طبقة حاكمة رشيدة؟” أجابني قائلا: قد تكون لديها طبقة حاكمة رشيدة، لكن العيب يكمن في انعدام التجربة لأن اصلاح الاعوجاج في المنظومة السياسية الحالية، يحتاج الى ايادي ماهرة لها خبرة طويلة في رتق الشقوق التي أحدثوها في منظومة الحكم والدولة… فمن يريد حكم تونس اليوم عليه أن يكون على دراية بأصغر تفاصيل وجزئيات إدارة شؤون الدولة، ويجب أن يكون على تجربة كبيرة في العديد من الوظائف السامية سابقا…فكل من حكموا البلاد بعد 14 جانفي أو لنقل أغلبهم لا دراية لهم بشؤون تسيير الدولة ولا علاقة لهم بما وجب عليهم فعله…

نظرت إليه وقلت: وماذا أيضا… حديثك ممتع يا صديقي الحمار؟ قال: أوصيكم بعدم الجنوح إلى تغيير نظام الحكم إلى رئاسي مطلق فقد تسقطون في نفس الفخّ الذي سقطت فيه عديد الدول الأخرى، حاولوا إضافة بعض الصلاحيات لرئاسة الجمهورية دون أن تضعوا بين يديها كل السلطة التنفيذية…قلت: ولماذا وهل من شيء نخاف منه في المستقبل إن اخترنا نظاما رئاسيا مطلقا…؟ قال: جرت العادة عند الرؤساء في الأنظمة الرئاسية بأن يكون كل شيء تحت سلطاتهم ولا صوت يعلو فوق صوتهم، ومن عادة هؤلاء اتباع العديد من الأساليب للتحكم في شعوبهم من هذه الأساليب التخويف والتهديد بالزج في السجون والإغراء بالمال والمناصب وقد يصل الأمر عند البعض إلى نصب المشانق…

صمت قليلا ثم قال: ثمة أمر وجب التفطن إليه، مقاومة الفساد لا تكون بكثرة الضجيج ولا بكشف أسماء الفاسدين، فمن يريد مقاومة الفساد فليفعل ذلك في صمت لأن كشف الأسماء والحديث يوميا عنها سيخلق حركة مضادة سيستحيل معها إنهاء الحملة، والشعب لن يصبر كثيرا على أية حكومة لا تلتفت إلى احتياجاته ومشاغله، ولا أظنّ أن الحديث اليوم عن مقاومة الفساد وبطاقات الإيداع والإقامة الجبرية سيخرج الشعب مما هو فيه وقد ينفد صبره في قادم الأسابيع ويخرج من جديد…رفع رأسه في اتجاهي وأضاف: شكرا صديقي الانسان على صبرك وتحملك كل ما كشفته اليوم لك وأمامك…وشكرا أنك استمعت لي طويلا رغم ما جاء في كتاب الله جلّ جلاله ” إنَّ أنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ” نظرت إليه متأثرا بما سمعته منه وقلت له: شكرا صديقي الحمار أنت حمار وطني ومخلص لوطنك وأرض أجدادك…وقف وطأطأ راسه ناهقا “نهقة” على مقام النكريز (كدت أقول “التكريز”، بالتاء التونسية) وهو مقام ينتشر كثيرا في تركيا والمشرق…

“بابا…يا بابا تي قوم شبيك تنهق…؟؟” نظرت أمامي لم أجد أحدا…نظرت إلى جانبي وجدت ابني سألته: “ماذا قلت؟” قال: كنت نائما وكأنك تحلم هل كنت تركب حمارا أم ماذا؟؟ حينها فقط عرفت أني كنت أحاور حمارا في الحلم…وقلت لابني: لا تهتم …”الله يهلك السياسة”…

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version