سأتحدث اليوم عن رجال نسيناهم …رجال شيْطنّاهم وجعلنا من مجرّد ذكر أسمائهم جريمة يعاقب عليها هواة الصراخ الثوري، ومن ادعوا طويلا أنهم حاضنة “الثورة”…أفضل كفاءات البلاد استفاد منها بن علي رحمه الله وجاء بها إلى حلبة السياسة ليفيد بها البلاد والعباد…
هؤلاء صنعوا مجد كل القطاعات وأخرجوا البلاد من عديد المآزق، واجتازوا بها عديد المطبّات…هؤلاء نسيناهم بعد أن مدحناهم طويلا وبعد أن خبرنا كفاءتهم وقدراتهم على صناعة القرار المفيد والجيّد…مشكلتنا في تونس أننا نتلوّن حتى في رؤيتنا للتاريخ والأشخاص…فكماتلون أغلبنا بحثا عن الفائدة، تلّون بعضنا الآخر من أجل صنع كفاءات أخرى من أشباه رجال يعوّض بها كفاءات صنعت التاريخ فعلا وساهمت في البناء….
هذا الشعب الذي تعوّد على نكران جميل من تعبوا من أجله لم يستوعب الدرس جيدا…أذكر جيدا ماذا قالوا في الهادي نويرة رحمه الله بمجرّد أن أصبح عاجزا عن الحراك…وأذكر جيّدا ماذا قالوا عنه يوم ندموا على أيام الهادي نويرة…جميعهم حتى من يكرهونه ترحّموا على روحه الطاهرة…وأذكر جيدا هتاف بعضهم لمحمد مزالي رحمه الله بمجرّد زيادتهم في الأجور وتفريغ خزائن الدولة قبل أن يأتي رشيد صفر لتعديلها جزئيا قبل حدوث الكارثة…وهنا أيضا أذكر جيدا انهم ترحّموا على روح مزالي وندموا على ما قالوه عنه وفيه…
مشكلتنا اليوم أننا فرطنا في من يمتلك الرؤية وبعد النظر وقبلنا بمن يكذب علينا علنا بشعارات لا يمكن صرفها في البنوك…فتونس على مرّ التاريخ لم تكن تمتلك القدرات والإمكانات بل كانت تمتلك الرجال والأدمغة…فبالرؤية يمكننا أن نبني القدرات ونمتلك الإمكانات وليس العكس…فالإمكانات يمكنها أن تنتهي وتزول لكن الرؤية لن تزول أبدا لأنها تولد من الطموح والإرادة…عكس الإمكانات التي قد تقتل الإرادة كما هو الشأن في العديد من الدول الغارقة في القدرات والإمكانات…لذلك أؤكّد اليوم على أمر مهم واستراتيجي للغاية فنحن وبعد “يوم الخديعة” اكتفينا بالبحث عن الحلول لأزماتنا التي نعيش وتحت ضغط حاجتنا الملحّة لإيجاد تلك الحلول…ونسينا حاجتنا الأكيدة للبحث عن رؤية مستقبلية تنقذنا من السقوط مستقبلا في ما نحن فيه اليوم…لذلك أؤكّد أننا في حاجة أكيدة إلى مخزوننا من الكفاءات الوطنية التي أجبرناها على الاختفاء عن الأنظار هربا من رميها بالحجارة ممن لم يساهموا في بناء تونس ولو بحجر واحد….
هؤلاء لهم من الأدوات والإمكانات والأساليب والمناهج والخطط للتحكّم في كل آليات التحليل الاستشرافي لمستقبل البلاد انطلاقا من صياغة قديمة بدأها بعضهم وأجبر على التوقف عنها…أعيدوا هؤلاء في جسد استشرافي جديد يهتم بمستقبل البلاد دون ولاء للأشخاص أو حتى للسياسات أو الايديولوجيات…ولاء للوطن ولمستقبل الأجيال القادمة….كما فعلت الولايات المتحدة قبل أكثر من 80 عاما….فلا تفرّطوا في نخب صرفت من اجلها الدولة ملايين الدينارات فقط لأنها لا تنتمي لمن تنتمون ولم تبايع من تبايعون ولم تلعق حذاء من تلعقون…ألا تفقهون…لا تخسروا بعض كفاءاتكم في أربع ساعات تدريس أكاديمي في جامعة، الخارج منها مفقود….ألا تفقهون …ولا تنسوا أن مزبلة التاريخ مليئة بمن فشلوا في إدارة شؤون أوطانهم …مليئة بمن جوّعوا شعوبهم …بمن خربوا ما بناه من حكموا قبلهم… بمن ظلموا خصومهم…هذه المزبلة ستتسع لكل متجبر متكبر مغرور يرى أنه اقدر ممن هم حوله واكفأ منهم والحال أنه لا يفوقهم في شيء…فاحذروا أن تكونوا من سكانها…
اليوم تركب سيارة أجرة تسمع سائقها وهو يقول “الله يرحمك يا بن علي”…تدخل مغازة مواد غذائية تسمع من البائع ومن المواطن “الله يرحمك يا بن علي”…تدخل مؤسسة حكومية لقضاء بعض الشؤون تسمع بعض المواطنين والكتبة وهم يقولون “الله يرحمك يا بن علي”…تدخل مستشفى لإجراء بعض الفحوصات تسمع أغلب من في قاعة الانتظار وهم يقولون “الله يرحمك يا بن علي”…تدخل محطّة للنقل تسمع العملة والسواق والركاب وهم يقولون ويتمتمون “الله يرحمك يا بن علي”…فهل هذا بن علي الذي كنتم تشيطنون عهدته…وتنعتونه بأبشع النعوت…هل هذا بن علي الذي تقولون انكم عانيتم في عهده وجعتم وعذبتم وشردتم؟ كيف حالكم اليوم يا من كنتم تعانون خلال حكم بن علي رحمه الله كل ما عنه ادعيتم؟ كيف حالكم وأنتم تبحثون عن رغيف من الخبز فلا تجدونه على بعد اميال من مقرّ سكناكم؟ كيف حالكم وأنتم تطلبون من زوجة جاركم بعض الغرامات من السكر لقهوة صباحكم؟ كيف حالكم وأنتم تجوعون…وأنتم تتهمون ظلما…وأنتم تمنعون من السفر…وأنتم تمنعون من التواجد سياسيا…وأنتم تبكون أطفالكم الغرقى في المتوسط…وأنتم تودعون صغاركم وهم يهربون من جحيم وطن نسيهم…كيف حالكم وأنتم تحقدون على بعضكم البعض…كيف حالكم…وأنتم تمسكون بطونكم من وجع الإحباط …ومغص اليأس…
ألا تفقهون…ألا تخجلون…متى تنتهي أحقادكم…وما تدّعون…ألم تقرؤوا الدرس جيدا…هذه الحياة قصيرة…وقصيرة جدا لنعيشها في محراب الحقد والكراهية …واصطياد أخطاء الآخرين ممن سبقونا…وأخيرا…”الله يرحمك يا بن علي”…وكل من كانوا معك وخدموا الأرض وحافظوا على العرض…