الأكيد أني لست الوحيد الذي شاهد ما جرى بين الرؤساء الثلاثة بمناسبة إشرافهم على ذكرى عيد الشهداء…والأكيد أن من يعي جيدا ما تعنيه تعبيرة “مفهوم الدولة ” تألم مما شاهده ومما وقع بين ثلاثتهم …هؤلاء الذين يعتبرون أن المنظومة السابقة كانت منظومة استبداد لم يتفطنوا إلى أنهم بما يأتونه أصبحوا أكثر استبدادا من كل المنظومات التي حكمت البلاد وأتهمت ظلما بالاستبداد…
فما شاهدناه جميعا ونحن أمام أجهزة الهاتف الذكية أو أمام أجهزة التلفاز يصيب كل مواطن بالغثيان ويفقد كل تونسي طعم الانتماء إلى هذا الوطن…فثلاثتهم ينظرون إلى بعضهم البعض نظرة حاقدة تتأبط شرا بمن تنظر إليه…وثلاثتهم لا يهتمون بمعاناة الشعب ولا بانتظاراته…فالحقد الذي شاهدناه يتطاير من أعين ثلاثتهم يفوق الحقد الذي يمكن أن نراه حين يتعلّق الأمر بصراعنا مع العدو الصهيوني، ولا أظنّ أن ثلاثتهم سينظرون إلى أحد قادة من شرّد أطفال الشعب الفلسطيني بتلك النظرة السامة والناسفة…كأني بهم أعداء بينهم دمّ وثأر حانت ساعة الأخذ به…
والأغرب من كل هذا هو ما أتاه ساكن قرطاج فالرجل بحث طويلا وخسر وقتا كان يكفيه لإيجاد بعض الحلول لما نحن فيه في أرشيف المنشورات القديمة، وجاءنا بما يشفي غليله وكعادته لم يفوّت فرصة وجوده أمام كاميرا رئاسة الجمهورية ليطلق العنان لصواريخ حقده وسذاجته ويخرج علينا بحكاية تشبه إلى حدّ كبير “عراك” أطفال صغار في حيّهم…ساكن قرطاج نزل إلى أسفل كثيرا ولا أظنّه سيعود ثانية إلى أعلى كما فعل ذلك في الدور الثاني من الانتخابات التي أوصلته إلى كرسي الزعيم بورقيبة…
أظنّ أن من طالب بعزل ساكن قرطاج على حقّ…وعلى صواب…فما يأتيه ساكن قرطاج كل مناسبة غريب ومعيب ولا يليق بمن يجلس أين جلس الزعيم الوحيد الذي أنجبته هذه البلاد… والأغرب من كل هذا الذي يجري التصفيق الذي نستمع إليه من مشجعي وأنصار هذا الثلاثي العجيب…فأتباع ساكن قرطاج يرون في تصرفات معبودهم حكمة وقدرة فائقة على معالجة قضايا هذا الشعب ويرون فيه عمر بن الخطاب وهو لا يرتقي لجلباب عمر…وأتباع ساكن باردو يعتبرون ما يأتيه سيّدهم من أفعال الملائكة وهو لا يرتقي لقميص الملائكة إن كانوا يرتدونه طبعا…وأنصار ساكن دار الباي يعتبرون سيدهم كفاءة قادرة على تغيير حال البلاد وهو لا يمكنه تغيير حال قسم صغير من أقسام الحالة المدنية بإحدى بلدياتنا المعطّلة…
وأظنّ ان تصفيق الأتباع هو من أضرّ بهذا الثلاثي وأوصله إلى هذا الوضع الغريب العجيب المعيب…الذي لا يليق أبدا بتونس التي حكمها بورقيبة ورفاقه …ثلاثي حكمنا اليوم لم يدركوا إلى حدّ الساعة أن ما يأتونه هو الاستبداد الحقيقي …فالاستبداد ليس فقط كما يعرّفونه هم بالتعتيم عن الاعلام، ورفض الآخر، والانفراد بالحكم وخنق الحريات وتكميم الأفواه…الاستبداد هو حين يكون الحاكم محدود التفكير، وحين يأخذه حمقه وسذاجته إلى مواجهة دائمة مع من هم حوله، ومع الجزء الأكبر من شعبه…
الاستبداد هو حين يتسبّب الحاكم في ضياع وطنه وشعبه بغباء قراراته وحمق اختياراته…وحين يجوع بعض شعبه ولا يحرّك ساكنا…وحين يعطّل بتعنّته مصالح دولته ويعرقل مسيرتها التنموية بما يأتيه من قرارات غريبة وغير صائبة…الاستبداد هو أيضا حين يتمسك الحاكم غير القادر بموقعه ويرفض الاعتراف بأنه لا يصلح للحكم…الاستبداد هو كذلك حين تشاهد بلادك تغرق في الوحل وتواصل ايهام الشعب بأن البلاد بخير…الاستبداد هو حين ترفض التنازل عن قرار خاطئ أضرّ ببلادك وأوقعها في مأزق يصعب الخروج منه…الاستبداد هو حين تتصوّر أنك على حقّ وأن من هم حولك على باطل…الاستبداد هو حين تحاول تحويل وجهة شعبك إلى تفاصيل لا تعنيه ولا تخرجه مما هو فيه…الاستبداد هو حين تأتي بأفعال تؤكّد أنك ضعيف الادراك وأنك غير صالح للجلوس على كرسي الحكم وتصرّ على عكس ذلك…الاستبداد هو حين تواصل سياسة الهروب إلى الأمام نحو الكارثة، فقط لأنك ترفض الاعتراف بأنك أخطأت…
الاستبداد الحقيقي هو ما يفعله اليوم ثلاثي الحكم في تونس…يقول باريتون “دلائل الغباء ثلاثة…العناد، الغرور، والتشبث بالرأي”…وهو ما يفعله ثلاثي حكمنا الغبي اليوم…