حين يرفض الجنين مغادرة بطن أمه “وجيعة”… تموت “وجيعة”!
نشرت
قبل سنتين
في
في أحد أيام أوت الحارقة عدت إلى المنزل مرهقا…متعبا…محبطا مما نعيشه ونسمعه ونقرأ بعضه جميعنا في هذه البلاد…وما تعيشه العباد في هذه البلاد…حاولت أن أنام قليلا قبل الخوض في مسائل أهمّ من خلال متابعة ما يجري في البلاد…وللعباد…
لكن ودون سابق إعلام رن جرس الهاتف لأجدني مع أحد الأصدقاء ممن أتعبتهم الحياة ومشاغلها…صديقي هذا من الذين يعانون ضيق الحال والحاجة كأغلب سكان هذا البلد…وهو من أولئك الذين يلهثون جريا وراء لقمة عيش لا يلحقون بها إلا نادرا…سألته كيف الحال يا فلان وهل من خدمة تحتاجها؟ قال: نعم زوجتي تتألم وتتوجع فالجنين لا يريد النزول بيننا رغم انقضاء فترة الحمل منذ أكثر من أسبوعين واخاف ان يطول به المقام حيث هو فيتسبّب ذلك في تدهور صحّة زوجتي؟ قلت: يا لطيف كيف ذلك؟ قال: لا أعرف صراحة هل تريد أن تزورنا لتعرف حالنا وما نعيش؟ قلت: لم لا، سيكون ذلك هذا المساء…
توجهت مساء ذلك اليوم إلى منزل صديقي المتواضع والمسكون بالوجع والمعاناة…طرقت الباب ففتح لي صديقي بقايا الباب لأجد المنزل مظلما لا نور فيه…سألت صديقي ما الحكاية قال لم أدفع فاتورة الاستهلاك منذ أشهر وقد لا اقدر على دفعها قبل سنوات…قلت يا لطيف…وأنا اتمتم “كيف تريد من ابنك أن يخرج للحياة وهو يعلم ما تعانيه؟”…جلست أرضا قبالة صديقي وسألته اين “وجيعة” وهو اسم زوجته المسكينة التي تعاني همّا على همّها وهمّ عائلتها…قال: أعلمتها بمجيئك وستأتي…دخلت “وجيعة” المثقلة بالجنين الرافض للانضمام إلينا في هذه الحياة الموجعة…وجلست إلى جانب زوجها على بقايا كرسي من الخشب يعيش آخر أيامه ويئن من وجع ما عاناه …
ابتسمت “وجيعة” رغم ما تعانيه ورغم وجع الجنين والسنين…قلت: كيف حالك يا وجيعة…؟ قالت: موجوعة يا ابن العمّ…موجوعة…قلت: ما رأيك لو نذهب إلى الطبيب الآن ليكشف عليك ويريحك من هذا الوجع وهذه المعاناة؟ قالت: لا مانع عندي لكن من اين لي ولنا بما سيطلبه الطبيب من مال…فكما رأيت وترى لم ندفع فواتير استهلاك الكهرباء والماء …ونعيش ظلاما…دون ماء وقد يطول بنا الحال على ما نحن فيه، فالأسعار ارتفعت إلى علو شاهق ولا قدرة لنا بالصعود إليها؟ قلت: لا تهتمي سأتكفل بالأمر؟ قالت: إذن، لا مانع عندي…انتظروني بعض الوقت حتى أكون جاهزة للخروج…
وفي هذه اللحظة، كأني بصوت آخر دخل على خطّ نقاشنا وحديثنا قائلا: لا…لا…لا اريد ان أكون بينكم ومعكم…لا …لا…سألت صديقي: من معكم في المنزل …وكأني سمعت من يقول لا…لا… قال: لا أحد غيرنا…نظرت لــ”وجيعة” وقلت لها اجلسي حتى أتصل بالطبيب وأعلمه بمجيئنا إلى عيادته…قالت: “خوذ راحتك ولد عمّي خوذ…”…وأنا أستعد لمهاتفة الطبيب عاد إلي الصوت الغريب الذي سمعته ليقول هذه المرّة: لا داعي يا عمّ لن أذهب إلى الطبيب ولن أغادر بطن أمي حتى وإن أجبرتموني…يا عمّ…
جلست أرضا قرب “وجيعة” وزوجها وأمرتهما بالتزام الصمت حتى أعرف من معنا ومن يتحدث إلينا ومصدر الصوت الذي استمعنا إليه…وقلت: من يحدثني…من أنت ومن تكون؟
الجنين: أنا يا عمّ؟ أنا ابن “وجيعة” الذي لم تلدني بعد، أرفض أن أنزل وأترك بطنها الآمن…لا أريد العيش معكم وبينكم…
قلت: ماذا؟ هل أنت تحدثني من داخل بطن “وجيعة” حقّا…هل تمزح أم ماذا؟
الجنين: نعم…أنا الجنين وأقسم أنني لا أمزح…كما أقسم أنني في بطنها منذ حوالي العشرة أشهر ولن اتخلى عن هذا المكان حتى وإن أجبرتموني…
قلت وأنا أنظر لصديقي وزوجته “وجيعة” مستغربا مما يحدث: أتعلم أنك تأخرت كثيرا عن الخروج للحياة وقد تتسبّب لأمك “وجيعة” في “وجيعة” أكبر…
الجنين: أعلم ذلك كنت سأكون بينكم يوم 25 جويلية لكن حين قرأت جيدا ما يجري خارج بطن أمي من خلال سماعي لمنابركم التلفزية واخباركم اليومية وما تعيشونه قررت البقاء في بطن أمي وعدم مغادرة هذا المكان أبدا…
قلت وأنا اضحك مما سمعت: وهل تقرأ الفايسبوك هناك…وهل تستمع إلى الاخبار والنقاشات السياسية؟
الجنين: نعم حين تكون أمي في زيارة إلى خالي استمع إلى ما يتحدثون به وما يقرؤونه على صفحات التواصل الاجتماعي وكيف أن الحقد أفسد عليكم حياتكم وجعلكم كقابيل وهابيل…وجعل عيشكم كداحس والغبراء…وأطال حربكم بينكم كحرب البسوس…
قلت: ولمَ ترفض الخروج وإراحة أمك من اوجاعها وما تعانيه، ستكون بيننا في أحسن حال وسنوفر لك كل ما يلزمك من ضروريات الحياة والعيش الكريم…وأعدك بدراجة كل سنتين حتى تصبح شابا يافعا وهاتف جوال “سامسونغ” حين تكبر…أتعرف “سامسونغ” بُنيْ؟
الجنين (وهو يضحك بصوت مرتفع انتفضت منه “وجيعة”): أتريدني أن أخرج إليكم وأنا أعيش الأمن والأمان في بطن أمي…هل تريدني أن اخرج إليكم وأنا لا أحتاج هنا أي شيء مما تحتاجون…أتريدني أن اخرج إليكم وطعامي هنا متوفر دون عناء، فهنا لا اشعر بالجوع والعطش ولا أعاني من البرد…ولا اشعر بالظلم…ولا بالإهانة…كرامتي محفوظة …حتى وإن أشعر بوجع أمي حين تتسارع دقات قلبها مما تعانيه …أو حين تنقبض بطنها من الألم…أو حتى حين تصرخ وتلتوي أمعاؤها جوعا…أو حتى حين تهتزّ كبدها بوخز من شدّة ما تعيشه من قلق وحيرة ويأس…أتريدني ان أخرج لأزيد من وجعها…وتعبها…لا…وألف لا…
قلت: ألهذا الحدّ لا تريد تجربة الحياة خارج بطن أمك…هنا ستكبر وستلعب مع إخوتك وأبناء عمومتك…وستتزوج حين تكبر…وستعشق…وستعمل…وستزور العديد من البلدان…وستعيش أجمل أيام حياتك بيننا…وسأمكنك من حساب “نتفليكس” لتشاهد آخر الأفلام…تعال …لا تستمع إلى ما يقال في الفايسبوك وفي المنابر التلفزية…تعال…إننا ننتظرك…وأمك تعبت من حملك …ووالدك سعيد بك وسيعمل ليلا نهارا من أجلك…أتعرف ميسي وكريستيانو رونالدو…ستستمتع بما يفعلونه يا بني…تعال أخرج إلينا لنسعد بك ومعك…تعال فبطولة الليغا ستبدأ آخر الأسبوع…
الجنين: لا…لا حاجة لي بميسي ولا حتى مبابي ولا حتى غيلان الشعلالي…لن أغادر بطن أمي…هنا لن يتهموني بالفساد…ولن يتهموني بالاحتكار…هنا لست مجبرا أو ملزما بالتصفيق لمن يحكمني…ولا للتصويت على من لا أريد ولا أقبل…هنا لا أحد سيرفع في وجهي صوته…ولا أحد سينعتني بما ليس في…هنا لا أخاف المطر ولا البرق ولا الرعد…هنا لا أخاف أن يسقط على رأسي سقف البيت المثقوب…ولا ان تنزل قطرات المطر من ثقوب السقف المسكين…هنا أنا في حماية بطن أمي…أطال الله بقائي فيها…
قلت: من زرع في ذهنك هذا السواد…نحن نعيش ديمقراطية لا مثيل لها…ونحترم الاختلاف …وحرية الراي…ونحترم الخصوم…والمنافسة…ولا ننفرد بالحكم ولا بالرأي… هنا يا بني لن تكتفي ببعض الحليب…هنا ستأكل اللحم…والموز…والمعكرونة…والبيتزا…أتعرف البيتزا، بيتزا “الفصول الأربعة”…هنا ستشرب الكوكا كولا…واللبن…وستأكل الغلال…أتعرف التمر…والرمان…والبرتقال…هنا ستتذوق طعم الزيت…وطعم حليب البقر…وستعرف حلاوة السكر…وستتمتع بطعم الرغيف العربي…تعال لن تندم عن الخروج من بطن أمك…تعال لتضحك من سلسلة “شوفلي حلّ”…وتتمتع بما يفعله “السبوعي” ومقالبه الغريبة العجيبة…
الجنين: عمّ…يا عمّ…أتتصورني غبيا لا أعرف حقّا ما يجري هناك خارج بطن أمي…أتتصور إني لا اشعر بمعاناة أمي…وما يعيشه أبي…عن أي حرية تعبير تتحدّث…وعن أي احترام للاختلاف…هل تحدثني عن الحليب المفقود…أم عن الزيت الذي يغيب عن طعامكم لأشهر…وعن السكر الذي أصبح في طعم العلقم…عن أي لحم تتحدّث؟؟ عن لحم بعضكم الذي تنهشونه كل ساعة…أم عن لحم آخر لا تقدرون على توفير ثمنه الذي ارتفع إلى العلو الشاهق…استمتعوا أنتم بــ”شوفلي حلّ”…وابحثوا لبعضكم البعض عن “حلّ” يعيدكم شعبا واحدا…وأمة واحدة…تحب بعضها البعض ولا تحقد على بعضها البعض…لن أخرج من بطن أمي…فالطعم الوحيد الذي سأتذوقه لو فعلت هو طعم الندم…فالجنة في بطون الأمهات…وتحت اقدامها لمن خرجوا من بطونها… وكيف لكم أن تدخلوا الجنة وأمهاتكم تتوجّع…من الفقد…ومن المعاناة…ومن الظلم…
نظرت إلى “وجيعة” فرأيت الوجع في عينيها…وشعرت بالألم يعصر جسدها والدموع تتدحرج من مقلتيها…أدرت وجهي لأرى صديقي فوجدته باكيا يتألم في صمت…سألتهما…ما بكما؟؟ فقالا…الجنين على حق يا ابن العمّ… الجنين على حقّ…وكأنه يعيش بيننا…
نظرت إلى بطن “وجيعة” وكأن الجنين يراقبني…وقلت: وماذا تريد منّا أن نفعل حتى تخرج إلينا وتريح أمك من وجعها وما تعيشه؟
الجنين: الوقت لم يعد صالحا للتنظير والخطب الطويلة والشعارات التي ملّها الشعب…فالعقل يسأل والمنطق يتساءل…ماذا فعلتم بدولتكم…ماذا فعلتم بشعبكم…فأمثالي وقبل أن يخرجوا من بطون أمهاتهم سيسألونكم الكثير من الأسئلة قبل التورّط معكم في حياة كما الذي تعيشون…هم سيسألونكم عن التشغيل وبطالة فلذات أكبادهم التي طالت…وعن فلذات أكبادهم الذين أكلهم حوت المتوسط، والذين ماتوا في سجون لمبيدوزا…فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟؟هم سيسألونكم عن غلاء الأسعار والقدرة الشرائية لضعاف الحال وللطبقة المتوسطة، فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟ هم سيسألونكم عن التعليم وإصلاح التعليم ومصير ومستقبل فلذات أكبادكم، فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟ هم سيسألونكم عن الفساد وماذا فعلتم في الفاسدين وهل نجحتم في كشفهم دون أن تظلموا أحدا…ودون أن تستمعوا إلى الوشاة الحاقدين الباحثين عن الانتقام والثأر من خصومهم…فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟
هم سيسألونكم عن رفع المظالم كل المظالم وعن العدل وبعض القضايا العالقة، فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟ هم سيسألونكم عن الصحة ومشاكل قطاع الصحّة ونقص أهل الاختصاص في بعض الجهات وهروب الكفاءات…ونقص الادوية…والتجهيزات… فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟ هم سيسألونكم عن انقطاع الماء والكهرباء في بعض الجهات…وعن كيفية الترشيد في استهلاك الطاقة والموارد المائية، فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟ هم سيسألونكم عن المشاريع العالقة والمعطّلة والتي تعاني روتين التعطيل الإداري فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟ هم سيسألونكم عن الطرقات وحالتها الميؤوس منها …عن المسارح المفقودة…عن دور الثقافة الموءودة …وعن دور الشباب الموعودة…فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟؟ هم سيسألونكم عن ديون البلاد …وكيف ستسددونها… فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟
هم سيسألونكم عن الحريات وكيف ستضمنونها…وعن حرية الرأي وكيف ستقبلون بها…وعن الاختلاف وكيف ستحترمونه… فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟ هم سيسألونكم عن المصالحة الشاملة وكيف ستجتمعون من أجلها…فدون مصالحة شاملة لا أحد منكم سيقبل بالآخر…ولا أحد منكم سيغفر للآخر…وستعيشون الانتقام وراء الانتقام…وسيكثر بينكم الثكالى والأيتام…فبماذا ستجيبونهم يا ترى؟ هم سيسألون…وسيسألون…وسيسألون…فقط هل ستقدرون على توفير الإجابة…فبعضهم سيسألكم حتى عن علف أغنامه وناقته التي تحتضر من شدّة الجوع…لذلك أقول…لا وقت لديكم للشعارات…ولا للجلسات المطولة في مكاتب مكيّفة وكراسي وثيرة فاخرة…ولا حتى للحوارات الصورية التي لا تهدف لغير اقتسام الكعكة وتوزيع الغنائم…
أنتم اليوم في الوقت الذي لا يجب أن تضيّعوا منه ثانية واحدة قبل أن تتشتتوا وتذهب ريحكم…لا حلّ أمامكم غير المصالحة الشاملة التي لا تستثني إلا من أجرم حقّا في حقّ البلاد والعباد وبحكم قضائي عادل لا تشوبه شائبة ولا خديعة وشاة وأصحاب ثأر…فهل ستفعلون ذلك يا عمّ…إن فعلتم سأترك بطن أمي…وسأخرج لأحتضن حضنها وحضن الوطن الدافئ الآمن…فهل وفرتم لي وطنا آمنا لأعيش فيه عوضا عن بطن أمي…يا عمّاه…أم ستصرخ مما قلت بأعلى صوتك لتقول …ووووااامعتصمااااه…يا عمّاه…
قلت…بل صرخت: وووووامعتصماااااه…ابق حيث أنت فلا أحد سيقبل أو سيقدر على ما قلت…