لماذا استثنى ساكن قرطاج الاتحاد من تشخيصه لأهمّ أسباب ما وصلنا إليه منذ 14 جانفي، ولماذا اكتفى بإعلان حربه على الأحزاب وبعض رجال الأعمال والأغنياء دون غيرهم من المكوّنات؟ هل عرف الاتحاد كيف يمتصّ غضب ساكن قرطاج، أم اتفق معه سرّا دون علم بقية مكونات المشهد العام السياسي والمنظماتي؟ فإن أمضى مستقبلا على هدنة طويلة الأمد، فلماذا رفضها سابقا؟ وما هو مقابل الهدنة إن هرول نحوها؟ وجميعنا يعلم أن لا أحد بريء من مكوّنات الحكم منذ 14 جانفي من دم هذا الوطن…وأوجاعه…فهل باع الاتحاد هدنة طويلة الأمد وصمته الكامل ووقوفه على الربوة مقابل عدم فتح ملفاته وملفات بعض قياداته وعدم المساس بالاقتطاع الآلي …أم أنه لم يحن إلى حدّ الساعة فتح ملفاته ومحاسبته عن كل أوجاع هذا الشعب؟
الاتحاد ومنذ فجر 14 جانفي 2011 تعامل مع الدولة كغنيمة، ولم يرأف بحالها في كل الأزمات التي مرّت عليها…ووصل به الأمر إلى فرض شراكته على الدولة مستغلا ضعفها، وسوء دراية كل من جلسوا على كراسيها بعد 14 جانفي…فالاتحاد اليوم بقياداته المركزية والجهوية يتعامل مع الدولة كأنه هو من يتحكّم في كل تفاصيلها ومفاصلها…ففي بعض الجهات وصل الأمر ببعض قيادات الاتحاد إلى التصرّف في شؤون الجهات عوض الولاة، وفرض كل اختياراتهم وخياراتهم على كل المؤسسات الجهوية، فالانتدابات تمرّ عبر إمضاء الاتحاد…وتوزيع الخطط الوظيفية يمرّ عبرهم أيضا…فمنذ 14 جانفي لست في حاجة بأن تكون كفاءة مشهودا بها أو أن تكون تجمعيا أو قريبا من النظام حتى تصبح رئيس مصلحة أو كاهية مدير أو مديرا جهويا أو حتى مديرا عاما…ومنذ 14 جانفي لا أحد يمكنه الجلوس هانئ البال ومرتاحا، دون أن يكون ممن رضي عنهم مولاهم الكاتب العام الجهوي للاتحاد، وطبعا يمرّ الأمر أيضا بملاحظة الكاتب العام للنقابة الأساسية لكل قطاع…ولكي تحصل على ما تريد عليك فقط أن تعلن البيعة والولاء للكاتب العام الجهوي للاتحاد بجهتك بالطريقة التي يراها هو أسلم…
الاتحاد إذن هو من يتحكّم في مفاصل الدولة منذ حكومة قايد السبسي، ونجح في كسر ذراعها كيف يريد متى يريد، فلماذا غابت الشجاعة عن الجميع لمحاسبة قيادات هذه المنظمة جهويا ووطنيا، منذ أكثر من عشر سنوات… فالاتحاد ليس الدولة كما لن يكون الحكومة أبدا…أتدركون اين وصلت جرأة الاتحاد وتطاوله على الدولة؟ فهو من يطالب بالتحوير الوزاري وهو من يعطي رأيه في أغلب الوزراء وهو أيضا من يقترح بعض أسماء الوزراء…ثم نحاسب الوزراء وننسى الاتحاد…وهو أيضا من يختار أغلب المدراء…ثم نحاسب المدراء وننسى الاتحاد…فهو إذن الشريك في الحكم والقرار والمُستثنى الوحيد من كل محاسبة…لكن هل يمكن اعتبار ما يفعله الاتحاد بالبلاد اليوم عموما، مساعدة للدولة على الخروج مما وصلت إليه…؟ لا أبدا ولن يكون…
قبل كل شيء تعالوا لنناقش من أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم؟؟ بعضهم يقول اختيارات الحكومات المتعاقبة وفشلها في إيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ البلاد…وبعضهم يقول عدم استقرار الوضع وتداول عديد الحكومات على التسيير أفسد كل المخططات التي كانت تهدف إلى النهوض بالبلاد والخروج من الأزمة…وبعضهم يقول سوء تقدير من معارضة بن علي التي مسكت بزمام السلطة بعد خروجه وعدم درايتها بحقيقة الحكم وأوضاع البلاد…لكن كل هذه الحجج والتبريرات ليست هي فقط أصل الداء…وليست السبب الأخطر والأكبر والرئيسي في ما نحن فيه اليوم…فالبلاد بدأت في الانحدار إلى أسفل منذ 14 جانفي 2011 حين أطلقنا العنان إلى المطالب والترضيات وتسوية الوضعيات…فالزيادات غير المدروسة والكرم الحاتمي للحكومات المتعاقبة على البلاد من سنة 2011 إلى سنة 2019 أفرغت كل خزائن الدولة وأغرقت البلاد في الديون… وكل هذا بسبب تعنّت الاتحاد وغطرسته وطغيانه على البلاد…
ففي عهد عبد السلام جراد رأينا العجب العُجاب في التعامل مع المطالبة بالزيادات في الأجور…فكل اعتصام وإيقاف أو تعطيل للإنتاج، تقابله ترضية من لدن الاتحاد والحكومة متمثلة في زيادة في الأجور لتهدئة الأمور والهروب من سماع كلمة “ديقاج”…فالخوف حينها بلغ أشدّه من الشارع ودكتاتورية الشارع المدعومة باستبداد النقابات، فكان الحلّ الأسهل والأمثل لمن كانوا يقودون البلاد والاتحاد تلبية كل الرغبات والمطالب على حساب موارد ومخزونات الدولة….فالزيادات التي تمّ توزيعها يمنة ويسرة لم تقابلها زيادة في الإنتاج بل انحدرت كل مؤشرات الإنتاج إلى أسفل…وما زاد الطين بلّة هو أغنية “العفو العام” التي جاؤوا بها لإنقاذ رؤوسهم من الفوضى العارمة التي حلّت بالبلاد…فالعفو التشريعي العام أفرغ جزءا من خزينة الدولة…ثم جاء “الغبي” فرحات الراجحي ليزيد الأمور سوءا وتعقيدا بإعلانه العفو عن آلاف الأمنيين المطرودين دون دراسة لملفاتهم، فغرقت البلاد في موجة من قرارات تسوية الوضعيات أثقلت كاهل الخزينة…ثم جاءت النهضة لتفرض تشغيل وتسوية وضعيات بعض الآلاف من قواعدها التي حرمت من حقّها خلال حكم بن علي رحمه الله …ثم تواصل العبث بمقدّرات البلاد حين أعلن علي العريّض حملة لتسوية وضعيات كل الأمنيين في محاولة منه لاستقطاب المؤسسة الأمنية سياسيا بجميع أسلاكها فسقطنا في منحدر يصعب الخروج منه…
تواصل الأمر على هذه الحالة مع وصول حسين العباسي إلى ساحة محمد علي أمينا عاما…فتضاعف عدد الاعتصامات وتعطيل مواقع الإنتاج إلى درجة أصبح التصرّف في موارد البلاد يوميا كأي دكان أو حانوت حي….ما تكسبه اليوم تصرفه غدا…فكل المواقع الإنتاجية الحساسة كانت معطّلة من طرف النقابات…فالاتحاد ينظّم بالشراكة مع المؤسسات الوطنية مناظرات انتداب ثم يفرض خياراته عند إعلان النتائج…ثم يجتمع مع قواعده ويحفزهم على الخروج عن الصفّ والتشكيك في نتائج المناظرات، وتعطيل العمل والاعتصام، ثم وفي آخر المطاف يجلس مع الدولة يناقشها الحلول وإيجاد الحلول ليفرض ما يراه صالحا له ولقياداته فقط…كل هذا التسيّب والانفلات والتطاول على الدولة أجبر كل الحكومات المتعاقبة على البحث عن حلول لمشاكلها بدءا بخلاص أجور موظفيها…ولم تجد غير الاقتراض للمحافظة على استقرار الوضع…ورغم ذلك، ورغم دراية الاتحاد بوضع البلاد الاقتصادي، وبما عليه وضع خزينة الدولة واصل هذا الأخير خنق البلاد قطاعيا وبالتناوب….فالبلاد لم تعش هدنة اجتماعية بمعنى الهدنة منذ 14 جانفي 2011 …فالإضراب تلو الإضراب وقطع الطريق تلو الآخر…واصبحت تونس دولة قُطاع طرق بربطات عنق…هذا حالنا منذ 2011 فعن أية مساندة ومساعدة من الاتحاد يتحدّث قياداته؟؟؟
واليوم والاتحاد يحاول جاهدا إيجاد منفذ إلى قلب ساكن قرطاج، يواصل بعضهم محاولة إقناع الرأي العام أن الوضع سيكون أفضل خلال قادم الأيام والأشهر والسنوات…لا …وأجزم أنه لن يكون أفضل ما لم تجدوا حلا جذريا لعلاقتكم مع الاتحاد، وما لم تعيدوه إلى حجمه الاجتماعي الطبيعي …فاتحاد اليوم يفرض التعيينات بجميع أصنافها…ويفرض الإقالات بجميع أصنافها…ويفرض العقوبات بجميع أنواعها…ويلفّق الملفات كما يريد لمن يريد ولكل من يعارض سياساته وخياراته…ويختار من يريدهم ليكونوا في مواقع القرار…ثم وفي المقابل يمضي على قرارات إضرابات وتعطيل لمواقع الإنتاج وقطع طريق أمام كل عودة للإنتاج العادي …وقد يخرج علينا في قادم الأيام بقرار يفرض على الشعب التحكّم في إنجاب الأطفال…فهل نحن فعلا أمام اتحاد يدافع ويحمي حقوق العمال أم أمام “قطاع طرق” اندسوا في الاتحاد يريدون الخراب للبلاد لوضع اليد عليها….
أعود لأقول…هل ستأتي الأيام القادمة بحلّ جذري يخرجنا مما نحن فيه؟؟ لا أظنّ فالخطأ الذي أوقعنا فيه أنفسنا لا يمكن الخروج منه بسهولة أيضا… فهل يُقدم ساكن قرطاج على كبح جماح الاتحاد وإيقاف النزيف، أم يقرر ارضاء رغبات الطبوبي وتحقيق أطماعه لتواصل البلاد سقوطها في “قبضة المجهول”…فكل رضوخ لشروط ساحة محمد علي وتلبية لمطالب الاتحاد، ولا أقصد المطالب الاجتماعية الشرعية والأكيدة للعمال طبعا، هي بمثابة إعلان وضع يد الاتحاد على الدولة…فهل يتفطّن ساكن قرطاج لأحد أهمّ وأكبر المتسببين في الخراب الذي تعيشه البلاد أم يضع يده في يد من أقدم على إطالة عمر بقائه على كرسي ساحة محمد علي، لتكون الشراكة معلنة بين من فعّل الفصل 80….ومن عدّل الفصل 20…وتصبح حالة البلاد “مائة/مائة”…ونعود بذلك إلى نفس مربع الفوضى وسلطة وقانون الشارع بحجة أن “الشعب يريد”…
حذار… فالقادم قد يكون أخطر من كل ما مر بهذه البلاد… وحذار أن ينقلب الربّان إلى قرصان فتُبحر السفينة إلى وجهة لم تكن في الحسبان…فنخسر الآن…وغدا…وما يمكن أن يكون وما قد كان…