أصدر اتحاد الفلاحين أول أمس بيانا بليغا بلاغة الذئب من دم ابن يعقوب … من شدة فصاحته و عمقه تخال أنهم هناك انتدبوا خبيرا في السياسة أو في القانون أو في حقوق الإنسان ليحرر ما يمكن أن يكون دستورا لا لجمهورية تونس فحسب، بل قد تغار منه (أو تغور عليه) جمهورية أثينا نفسها لو بُعثت من جديد …
ينبّه البيان أولا من “خطر اعتماد خطاب سياسي عنيف في البلاد، و يدين كل أشكال الاعتداء على الأملاك العامة و الخاصة و الحريات الشخصية … كما يدعو رئيس الجمهورية إلى احترام الدستور و المحافظة على مكتسبات “ثورة الحرية و الكرامة” و توضيح حدود التدابير الاستثنائية و التزامه بالسقف الزمني المضبوط بمقتضى الدستور … و يشفع ذلك بالتشديد على ضرورة احترام استقلالية القضاء و حرية التعبير و الالتزام بمدنية الدولة و عدم الزج بالمؤسسة العسكرية في التجاذب القائم” …
إلخ، إلخ، إلخ … إذ يمضي بيان اتحاد “الفلاحين” (للتذكير) حتى النهاية في فقه الدستور و القضاء و الحريات و خاصة هذه العبارة التي لم تصحّ إلا حين شوّهها أحد الناطقين في زلة لسان: الحوار الوطني … الآن وصلنا … طبعا كل هذا جميل و أصيل و متفق عليه، فأنت و أنا و كافة أمة محمد نقول جميعا إننا ضد العنف و مع الديمقراطية و الحوار و الدولة المدنية … و لا يهمّ بعد قولنا هذا، إن لعلعنا بالحناجر قبل استلال الخناجر ضد بعضنا البعض … و لا يهمّ إن اهترأت معزوفة الحوار والتوافق التي من كثرة ما ردّدناها و احتلنا بها على الناس، تطبطب العود و تقطّعت الأوتار واحدا بعد آخر …
لا يهمنا كل هذا، كما لا يهمّنا الخوض في ما يجري بين سعيّد و من يزعمون خصومة بينه و بينهم … و لا حتى في الطرف السياسي الذي يتخفّى وراء هذه المنظمة المهنية، فالجواب بائن من عنوانه … و لكن الفكر يحتار والفؤاد ينشوي و هو يسأل اتحاد الفلاحين عن شأن الفلاحة و الفلاّحين:
ـ نحن في ذروة فصل البرتقال و أخواته من القوارص، و هذه المنتجات تونسية لحما و عصيرا، فلماذا تباع بأسعار تقارب أسعار الموز و التفاح المستورديْن؟
ـ لماذا في كل متاجر الخضر و الغلال، و لو كانت مغازات راقية، نجد أنفسنا مجبرين على فرز كعبة جيدة على خمس أو ست فاسدات؟
ـ لماذا يطال غلاء الخضر و الغلال، باعة الشاحنات في مفترقات الطرق، و حتى ما يعرضه الفلاحون أنفسهم قرب السانية … بعيدا عن الأسواق و ضرائبها و مكوسها و تكاليف محلاتها؟
ـ هل من حلّ لهذه الحلقة اللامتناهية التي تجعل الجزّار يتّهم بائع الغنم، و بائع الغنم يتهم مربّي الماشية، ومربي الماشية يتهم تاجر الأعلاف و هكذا … حتى نرسي في النهاية على لحوم بأسعار مجنونة؟
ـ نفس الكلام يمكن أن نسوقه عن الأسمدة، و السمك، و الدواجن، و الألبان و حتى القمح و الشعير … واسألوا من يوصيهم الأطباء باستهلاك خبز طبيعي من هاتين الثمرتين، و عمّا يعانونه من غلاء لم تسلم منه حتى النخالة.
ـ عن التمور التونسية و زيت الزيتون حدّث و لا حرج … و قريبا سنصل إلى طلبها من متاجر فرنسا و ألمانيا، فهي هناك أجود بكثير و أرخص سعرا من “المجبَى” الحسينية التي ندفعها هنا
يطول الكلام و لا يقف، و من جهة المستهلكين فقط … لم نتحدث عن حال غاباتنا، و لا عن فناء حزء مهمّ من نخيلنا، و لا عن غزو المنتجات الأجنبية لبلادنا على حساب الزراعة الوطنية، و لا عن اتفاقية “أليكا” … بل كدنا ننسى صغار الفلاحين و وضع الأراضي الدولية و الخاصة، و بما أن البيان تطرق في بدايته للأملاك العامة والخاصة فأظنه يقصد ما صنعته قيادة اتحاد الفلاحين هذا منذ 2011 بتلك العقارات … سواء كأفراد أو كحزب سياسي حكم البلاد بطريقة المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة …