“حْجيرات المَخْلة” أو ماعون الصّنعة … لدى بعض الأصناف المهنية والاجتماعية في تونس
نشرت
قبل 3 سنوات
في
تقول كاترين بارادايز في كتابها ” في فهم المهن : إسهامات علم الاجتماع” : إن المهن هي هويّات نَبْنيها، ووضع ندافع عنه ومربّعات نحميها وحرفاء (بمعنى جمهور) نُطمئنهم.
واللغة الخصوصية التي تتكلمها مجموعة اجتماعية مّا، غالبا ما تهدف إلى استبعاد أطراف أخرى من حقل التواصل وأيضا أحيانا من المجموعة البشرية بأسرها.
يبدو لي شخصيا أن الاستعمالات اللغوية لدى كل صنف من الاصناف المهنية ليست عفويّة وهي حمّالة معنى ورغبة في تشكيل هوية خصوصية حلزونية الالتفاف يختبئ بداخلها أغلب المنتمين إلى تلك المجموعة بحثا عن التميز والتمايز من جهة ومن أجل التحصّن بلغة تبدو عالِمة وصعبة المنال وغير متاحة أمام الآخرين في محاولة للاستقواء والتفرّد.
ولا يفوتني أن أشير قبل التعرض إلى الحقيبة الاصطلاحية المعتمدة لدى بعض الأسلاك المهنية أو الفئات الاجتماعية، إلى أن الهدف من وراء هذا النبش في ثنايا الخطاب الذي يُلقى أمامنا يوميا أينما حللنا هو مجرد اقتداء بشعر إيليا أبو ماضي الذي يقول “قال السّماء كئيبة وتجهّمَا … قلت ابتسم يكفي التجهّم في السّماء” …بما يجعل منه تحريض لطيف على الدّعابة والمرح مع جرعة صغيرة من الدعوة إلى التعامل النقدي الساخر مع ما نستعمله يوميا من اصطلاحات وتراكيب.
في المعجم الاصطلاحي لدى خبراء التنمية البشرية :
هذا المجال بالذات هو بالنسبة إليّ مجال/ حقيبة بمعنى كونه مجالا مطّاطا وفضفاضا باستطاعة أيّ كان أن يؤثّث صفحاته بما لذّ وطاب من النوايا الحسنة والأفكار الإيجابية والقيم الكونية التي تتواضع عليها كل شعوب الدنيا، كأن تقول إنه على الإنسان أن يعيش كل لحظة وكأنها آخر لحظة في حياته أو إن الحياة إما أن تكون مغامرة جريئه أو لا تكون أو أن تستخدم السلم درجة درجة إذا كان مصعد النجاح معطلاً أو إنك لست نِتاجَ ظروفك إنما أنت نتاجُ قراراتك أو أخيرا إن السعادة يتمّ تعلّمها (فنّ تعلّم السعادة) وليست مجموعة مؤشرات قابلة للقيس الموضوعي ومرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية للشعوب.
لدى النقابيين :
الحقيبة الاصطلاحية للنقابي تتراوح بين الدفاع عن قلعة حشاد وليس لدينا ما نخسره غير قيودنا والدفاع المستميت عن المطالب المشروعة وتنكر السلطة لمحاضر الجلسات الممضاة وأسود القطاع والنقابي الشرس وجشع رأسمال المتعفّن، والنضال بكل الوسائل المتاحة والاعتداء غير المسبوق على الحق النقابي والملفات العالقة وحلحلة الوضع المتأزّم والتصدي لسياسات التفويت وتحميل سلطة الإشراف مسؤولية تعطّل مسار الحوار…
لدى الأمنيين :
المهمة في الاتجاه. واضح واضح. تفضل واصل. قواتنا بصدد التعامل مع الإرهابيين (أي ملاحقتهم بواسطة السلاح). تم حجز عدد 2 من بنادق الصيد بدلا من حجز بندقيتيْ صيد. الهدف محل اهتمام. تحرير محضر في الغرض. الجاهزية العملياتية. النسيج الأمني. مرجع النظر و إلقاء القبض على شخص محل 43 منشور تفتيش. مراجعة النيابة. وضع خطط الانتشار الأمني…وضرورة التحوّز بمثلث علامة الخطر عندما تكون كل أوراق السيارة مكتملة النصاب.
لدى الإداريين عامة والمكلفين بالاستقبال بصورة خاصة :
تفضّل … (وتُقال غالبا على نحو يوحي بنوع من النيّة في العضّ!) . آش اسمك انت وواش اسمها أمك(على مسمع من كل الحاضرين طبعا). السيستام طايح منذ الصباح. صبها في مكتب الضبط ورانا ما نعطيوش ديشارج. المدير في مهمة البرة (أون ديبلاسمون بالفرنسية عادة). شوية نظام يعيشكم. خليلنا نومروك توة نكلموك. موضوعك من مشمولات الدجات DGET… ثم صمت واثق (دون توضيح هوية هذه الإدارة العامة وأين تقع وبمن يتصل). ملفك عند زميلي اليوم في كونجي. .. وكثير من الإداريين يُبدون ميلا خاصا إلى استعمال مصطلحات “البوردورو” و “الباراف” ومراجعة المصلحة المختصة عن طريق التسلسل الإداري.
لدى طالب سنة 3 طب :
طبيب المستقبل يلجأ كثيرا إلى الاختصارات حتى وإن كان من اليسير عليه استعمال مصطلحات بسيطة كما يستعملها الشعب الكريم مثل أن يقول فلان عمل AVC عوضا عن جلطة و cuprémie بدلا من نسبة النحاس في الدم أو يخدم في قسم stomato حتى لا يقول قسم طب الأسنان والا يلزمك تجي à jeun بدلا من على خواء وحديثًا الفايروس بدلا من الفيروس و point de suture وليس غُرزة، ويفضل أحيانا وهو يتحدث إلى امرأة عجوز استعمال مصطلح hyporexie بدلا من نُقص الشاهية.
إضافة إلى أن الكثيرين منهم يقضون بعض حاجياتهم من المرافق التجارية القريبة دون مغادرة ميدعاتهم البيضاء.
لدى طالبة سنة 2 حقوق :
طلبة أقسام الحقوق مفتتنون عادة بإجراءات التقاضي ورفع الدعاوى امام القضاء (بدلا من يشكي بيه) ولا بد من احترام القواعد الإجرائية. والدستور قد يكون مكتوبا (كما في الولايات المتحدة) أو غير مكتوب (كما في بريطانيا العظمى).
القوانين ذات الأثر الرجعي هي كذلك من صلب اختصاصهم. أما الجنحة فهي اقل خطورة من الجريمة بطبيعة الحال. والمينيستار بوبليك في القانون هي النيابة العامة وليست الوزارة العمومية . وهناك فرق ثابت بين الفسخ dissolution والإلغاء annulation وانحلال ميثاق الزوجية والجزاء من جنس العمل أو الخطأ كما في بعض الولايات الامريكية : عندما يحرق مواطن قطّا يُحكم عليه بقضاء ستة أشهر في الاعتناء بالقطط السائبة.
لدى المترفين الباحثين عن الإبهار وإلبروز :
هؤلاء غالبا ما يستنجدون باللغة الفرنسية أو الانكليزية للتعبير عن مُرادهم. فهم لا يتبضّعون مثل سائر الخلق بل يذهبون لــ shopping ولا يكتفون بالقول إنهم تناولوا وجبة العشاء في مطعم ما بل يُفصّلون القول في نوع الوجبات فيقولون أنهم أكلوا ترتار ولونغوستين وجابولنا soupe d’artichauts à la truffe noire موش خايبة. كما يتردّدون كثيرا في تسمية أكشاك بيع الفواكه الجافة المعروفة لدى التونسيين بالحمّاص أو القلايبي ويهمّون بإطلاق اسم “الفستقاجي” عليها لأن الفستق هو الأقرب إلى مستوى جيوبهم. أما الألوان لديهم فتلك قصة أخرى.